المعجزة الخالدة في القرآن المجيد- 1 -

المعجزة الخالدة في القرآن المجيد

بقلم الأستاذ الدكتور زكريا البري

أستاذ ورئيس قسم الشريعة بكلية حقوق القاهرة

وخبير مجلس الشعب في الشريعة الإسلامية

1- يروى الإمام الترمذي عن الإمام علي - رضي اللَّه عنه - قوله: "سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: أنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ فيه الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن لما سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن هدى به هدى إلى صراط مستقيم ".

وفي هذا الحديث النبوي الكريم إشارة إلى جوانب من الإعجاز القرآني، الدال على أنه كلام العليم الحكيم، مصداقًا لقول الله - سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. وقوله - عز وجل -: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}.

وجوه الإعجاز:

2- ونجمل وجوه إعجاز القرآن الكريم إجمالاً شاملاً في الأمور التالية:

أولاً: بلاغة القرآن الكريم وفصاحته، وجمعه بين النظام الرائع والمعاني السامية، وقوة تأثيره في الأرواح والنفوس، وسهولة حفظه، وخفته على اللسان والجنان، وبلوغه في ذلك كله منزلة لا تدانيها منزلة لغيره، حتى إن الوليد بن المغيرة مع كفره يواجه العرب بذلك، ويقول: والله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعرف برجز الشعر وقصيده مني، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا، وإن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه" لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته ". وحتى إن عمر بن الخطاب يستمع إلى بعض آيات فتشرق عليه أنوار الهداية السماوية، وتكن نفسه وتنحني رأسه إجلالاً للقرآن العظيم، بعد ما كان موقفه من ممن سبقوه إلى الإسلام.

وإذا كان العرب - وهم فرسان البلاغة - قد عجزوا عن الإتيان بمثله، فإن عجز غيرهم من الأمم أولى وأظهر، وإن اللَّه سبحانه وتعالى يقول: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}.

ثانيًا: ترابط سوره وآياته وكلماته، وتناسق أحكامه ومعانيه، فلا يوجد تعارض مطلقًا بين حكم وحكم ولا بين معنى وآخر، ولا تناقض بين آية وآية، مع كثرة ما يتناول من الموضوعات، وعالج من المشاكل والتشريعات التي استوعيت جميع العلاقات الاجتماعية، ومع أنه قد بلغت آياته نحو ستة آلاف آية. والله سبحانه وتعالى يقول: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا قيمًا}. ويقول - عز وجل -: {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}. ويقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا}.

فإن رأى بعض الناس تعارضًا بين بعض الآيات، فمرد ذلك إلى اعوجاج تفكيرهم، وخطأ أفهامهم، أو تحكيم أهوائهم، وتحريف الكلم عن مواضعه.

ثالثًا: إخبار القرآن العظيم بحوادث ماضية في القرون الخالية، فقد قص أخبار عاد وثمود وقوم لوط، وأخبار موسى وفرعون، وغير ذلك من قصص الأنبياء والمرسلين، وكانت تلك الأخبار صادقة وموافقة للمنقول في الكتب السماوية السابقة، التي لم يتناولها تحريف ولا تبديل، ومتفقة مع أخبار التاريخ الصحيح، ولا يمكن أن يكون هذا من عند النبي - عليه الصلاة والسلام، فقد كان أميًا لم يقرأ ولم يكتب، وما جلس إلى معلم، بل اختصه الله سبحانه - بالعقل الراجح والمعارف الإلهية {واللَّه أعلم حيث يجعل رسالته}.

وقد أشار القرآن الكريم إلى الحكمة الإلهية في ذلك، بقوله تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون}. وبقوله - عز وجل -: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين}، {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون}، {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وكنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون}.

ولقد حاول المشركون - عنادًا - أن ينسبوا هذه الأنباء التاريخية إلى رجل يعلمه، فرد عليهم القرآن وكذبهم، فقد كان هذا الرجل فتى أعجميًا لا يجيد العربية، وليس له علم بحوادث التاريخ الماضية. وقال - سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}.

رابعًا: إخبار القرآن بأمور مستقبلة، وقعت كما نطق، فقد وعد المؤمنين بالنصر والغلبة في غزوة بدر الكبرى مع قلة العدد، في قوله تعالى: {إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.

كما وعدهم بفتح مكة في قوله - سبحانه -: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}.

كما أخبر بانتصار الروم وهم أهل كتاب على الفرس المشركين بعد أن كان الفرس غالبين، في قوله تعالى: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}.

وقد استرد الروم قوتهم، وهاجموا الفرس، وانتصروا عليهم، في الوقت الذي انتصر فيه المسلمون ببدر، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله}.

ومن ذلك إخباره - سبحانه - في القرآن الحكيم بضرب الذلة على بني إسرائيل الأشرار في جميع الأزمان إلى يوم القيامة، وأن هذه الذلة لا ترتفع عنهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس، ارتفاعًا جزئيًا ونسبيًا موقوتًا بإرادة الله سبحانه وتعالى وحكمته، وبما يقدمه لهم بعض الناس من معونات وقتية، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}، ويقول سبحانه: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}. ويقول - سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ. وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا}.

ونلفت الأنظار إلى بعض المعاني والأسرار القرآنية في هذه الآيات:

فمن ذلك أن الذلة مضروبة عليهم، بمعنى أنها سكنهم تلازمهم ويلازمونها، وتغطيهم وتحيط بهم، ويشهد لذلك الأسلوب العربي الذي يقول: "ضرب الرجل خيمته على امرأته" أي جعلها سكنها وغطاءها لا تبرمها، فإذا خرجت منها لعارض فإلى عودة سريعة، ثم بمعنى أنها طابعهم المميز بين الأمم، تلازمهم ملازمة الطابع للمطبوع، ويشهد لهذا المعنى قول العرب: ضربت النقود أو وضعت عليها نقاشها وشاراتها المميزة لها والمحدودة لقيمتها، وكما يعاد ضرب النقود على وجهها إذا زالت عنها نقوشها المميزة، بإدخالها في النار وصهرها، فكذلك شأن الإسرائيليين، إذا زالت عنهم الذلة لعارض، أعيد ضربها عليهم من جديد، بصورة أوضح وأعمق.

ومن ذلك أن السر القرآني في إطلاق ضرب الذلة عليهم في الآية الأولى بدون استثناء، بناء على ما هو شأنهم وطبعهم، واستثناء حالة حبل الله وحبل الناس في الآية الثانية، يشير إلى أن ارتفاع الذلة عنهم حالة وقتية محدودة، لا تلبث أن تزول بزوال أسبابها، ولا تعد شيئًا مذكورًا بالنسبة لحالتهم الأصلية والمستمرة في جميع الأزمان.

ونوضح اختلاف التعبيرين في الآيتين الكريمتين إطلاقًا في الأولى وتقييدًا في الثانية بهذا المثال:

فلان من الناس عرف بالجبن طول حياته، لم يخرج عن طبيعيته إلا مرة بسبب تأييد رجل قوي له، نصفه بالجبن دون استثناء ونحن صادقون، لأن هذا شأنه وشميته، دون الثفات إلى الشجاعة العارضة غير الذاتية، ونصفه أحيانًا بالجبن مع استثناء تلك الحالة، وبيان سببها الخارجي.

ومن ذلك أن المسكنة وهي الضعف النفسي الذي قد يحاولون إخفاءه، كما يفعل الجبان أحيانًا، والحاجة إلى الغير، مضروبة عليهم في الآيتين بدون استثناء، وكذلك الغضب الإلهي.

ومن ذلك أن وعد الله سبحانه بأن يبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب قائم إلى يوم القيامة.

ومن أن ذلك تقطيعهم إلى جماعات متفرقة في جوانب الأرض هو حكم الله عليهم، فمن المستحيل أن تكون لهم دولة تجمع شملهم جميعًا من كل بلاد الدنيا، وأن يكون لهذه الدولة استقرار ذاتي دائم، كما هو الشأن في الدولة المستقرة.

يقول الفخر الرازي في ضرب الذلة على اليهود "ومن العلماء من هذا من باب المعجزات، لأن القرآن أخبر عن ضرب الذلة والمسكنة عليهم، ووقع الأمر كذلك، فكان آخذا إخبارًا عن الغيب، فيكون معجزًا". وأقول: ولقد كان الاستثناء في الآية الثانية وجهًا وخر من وجوه الإعجاز.

وقد مضت القرون وحوادث التاريخ البعيد والقريب لبني إسرائيل، مشاهد صدق لخبر الله سبحانه، كما ذكر القرآن الحكيم.

هو ما نرجو أن يحققه الله على أيدي العرب والمسلمين، وهم أهل لذلك بحكم دينهم وعروبتهم وتاريخهم وتراثهم - إذا استجابوا لنداء القرآن وتحذيره، في قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا} وقوله - سبحانه -: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}، {ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتهم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة}.

وقد بدت مقدمات النصر وبشائره في المعركة الأخيرة، التي خاضتها الجيوش العربية بجدارة باسم الله، والله أكبر، واستعمل فيها العرب أسلحتهم الحربية والاقتصادية والسياسية وندعو الله سبحانه أن يتم علينا نعمته، وأن يجعل لقادة العرب المعاصرين شرف إتمام تحرير بلادهم، واسترداد أوطانهم ومقدساتهم، وأن يكون لهم ذلك في الدنيا مجدًا وفخرًا، وفي الآخرة أجرًا وذخرًا.