الدعوة إلى الجهاد في القرآن والسنة

الدعوة إلى الجهاد في القرآن والسنة

لسماحة الشيخ عبد اللَّه بن حميد

الرئيس العام للإشراف الدينة

بالمملكة العربية السعودية

تقديم

أحببت أن أقدم للسادة قراء التوحيد نماذج طيبة وشخصيات رائدة ترود المسلمين إلى الخير وتهديهم بإذن اللَّه إلى طريق الحكمة، فقدمت فضيلة الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجماعة الإسلامية بالمدينة المنورة باعتباره واحد من رواد التوحيد في العالم، وهاأنذا أقدم شخصية عالمية أخرى لها أثرها الطيب وفضلها الكبير في الحفاظ على معالم التوحيد وتوطيد أركان الإسلام، ونشر الدعوة الإسلامية في العالم، وهو فضيلة الشيخ الكبير عبد اللَّه بن حميد الرئيس العام للإشراف الديني بالمملكة العربية السعودية - أطال اللَّه عمره وأصلح عمله.

رئيس التحرير

الحمد لله الذي شرع الجهاد بالقلب واليد واللسان، وجعل جزاء من قام به الغرف العالية في الجنان .. وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد ورسوله المبعوث رحمة للعالمين والمأمور بقتال المشركين، جاهد في اللَّه حق جهاده .. صلى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه .. والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللَّه بأموالهم وأنفسهم فكانوا هم السادة الغالبين ..

أما بعد: فمعلوم ما كان عليه رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام في الجهاد مع المشركين منذ بعثه اللَّه عز وجل وأكرمه بالرسالة، إلى أن توفاه اللَّه واختار له ما عنده، فكان يغشي الناس في مجالسهم في أيام المواسم وغيرها ويأتيهم في أسواقهم، فيتلوا عليهم القرآن، ويدعوهم إلى اللَّه عز وجل. ويقول: ((من يؤوينى ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربى وله الجنة))، فلم يجد أحد ينصره ولا يؤويه ...

واستمر يدعو إلى اللَّه ويصبر على الأذى ويصفح عن الجاهل مدة ثلاثة عشر سنة لإقامة حجة اللَّه تعالى ووفاء بوعده الذي امتن عليهم به في قوله: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [سورة الإسراء: 15] ...

فاستمر الناس في الطغيان وما استدلوا بواضح البرهان، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه ليفتنوهم عن دينهم، وحتى نفوهم عن بلادهم فمنهم من فر إلى أرض الحبشة، ومنهم من خرج إلى المدينة، ومنهم من صبر على الأذي من حبس وجوع وعطش وضرب ... حتى إن الواحد منهم ما كان يقدر أن يستوى جالسًا من شدة الضرب.

لقد جعلوا في عنق بلاد حبلا ودفعوا به إلى الصبيان ليلعبوا به ويطوفون به شعاب مكة .. وما لاقاه آل ياسر من العذاب يفوق ما يحتمله البشر.

وآذت قريش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وحاصروه في الشعب، وحاول عقبة بن أبي معيط أن يخنقه مره .. وما زال يشد ثوبه عليه حتى جحظت عيناه، وأسرع أبو بكر فخلصه وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربى اللَّه ...

وحاول أبو جهل قتل الرسول وهو بالمسجد يصلى فحمل حجرًا ضخمًا ليلقيه على رأسه وهو ساجد ولما همّ بإلقائه رجه مذعورا .. وقال: اعترضنى دون محمد فحل هائل من الإبل هم أن يأكلنى ...

ولما أراد اللَّه إظهار دينه وإنجاز وعده ونصر نبيه، أمره اللَّه تعالى بالهجرة إلى المدينة، فاستقر صلوات اللَّه وسلامه عليه بها، وأيده اللَّه بنصره وبعباده المؤمنين فمنعته أنصار اللَّه وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر، فبذلوا نفوسهم دونه، وقدموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج ....

وكان أولى بهم من أنفسهم فلما رمتهم العرب واليهود عن قوس واحد، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة وصاحوا بهم من كل جانب .....

أذن اللَّه لهم حينئذ في القتال، ولم يفرضه عليهم فقال:{أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن اللَّه على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا اللَّه ... } [سورة الحج: 39].

أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكن اللَّه يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته كما في قوله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب. حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق. فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها. ذلك ولو يشاء اللَّه لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل اللَّه فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم. ويدخلهم الجنة عرفها لهم ... } [سورة محمد: 4 - 6]. ثم فؤض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقال:{وقاتلوا في سبيل اللَّه الذين يقاتلونكم} [سورة البقرة: 106].

ثم أنزل في (سورة براءة) الأمر ينبذ العهود وأمرهم بقتال المشركين كافة وأمر بقتال أهل الكتاب إذا لم يسلموا حتى يعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون.

ولم يبح لهم ترك قتالهم وإن سالموهم وهادونهم هدنة مطلقة مع إمكان جهادهم.

فكان القتال ممنوعا ثم مأذونًا به - لمن بدأهم بالقتال -، ثم مأمورا به لجمع المشركين .. كما في سورة البقرة، وآل عمران؛ وبراءة ... وغيرها من السور.

أوجب اللَّه على المسلمين القتال وعظ عامة الجهاد في معظم السور (المدنية) كما في قوله تعالى: {انفروا خفافًا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل اللَّه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [سورة التوبة: 41].

وقال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم واللَّه يعلم وأنتم لا تعلمون} [سورة البقرة: 216].

فالقتال: وإن كان مكروهًا للنفس بطبيعتها لما فيه من التعرض للقتل والأسر وتشويه البدن وإتلاف المال وتدمير المصانع وتخريب البلاد وإشاعة الرعب والفزع في النفوس والإخراج من الأوطان.

فقد رتب اللَّه عليه من الأجر والفوز مالا يخطر على قلب بشر ..

قال عكرمة: أنهم كرهوه ثم أحبوه .. وقالوا: سمعنا وأطعنا ...

وهذا لأن امتثال الأمر يتضمن مشقة، ولكن إذا عرف الثواب هان في جنبه مقاساة المشقات ...

وقد تظاهرت آيات الكتاب، وتواترت نصوص السنة على الترغيب في الجهاد والحض عليه ومدح أهله والإخبار عما لهم عند ربهم من أنواع الكرامات .. لأنهم جد اللَّه الذين يقيم بهم دينه ويدفع بهم بأس أعدائه، ويحفظ بهم بيضة الإسلام، ويحمى حوزة الدين ...

وهو الذين يقاتلون أعداء اللَّه ليكون الدين كله لله .. ولتكون كلمة اللَّه هي العليا وجعلهم شركاء لكل من يحمونه بسيوفهم في أعمالهم التي يعملونها وإن باتوا في ديارهم ولهم مثل أجور من عبد اللَّه بسبب جهادهم وفتوحهم .. فإنهم كانوا هم السبب فيه ...

والشارع قد نزل المتسبب منزلة الفاعل التام من الأجر والوزر .. فكأن الداعى إلى الهدى والداعى إلى الضلال لكل منها بتسببه مثل أجر من اتبعه ويكفي في ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} [سورة الصف: 10].

فتشوقت النفوس إلى هذه التجارة الرابحة التي دل عليها رب العالمين فقال: {تؤمنون باللَّه ورسوله وتجاهدون في سبيل اللَّه بأموالكم وأنفسكم .. }.

فكأن النفوس ضنت يحياتها وبقائها .. فقال:{ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}، يعنى أن الجهاد خير لكم من قعودكم .. فقال: {يغفر لكم ذنوبكم} ومع (المغفرة) يدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار ومساكن طيبة غي جنات عدن .. ذلك الفوز العظيم ..

فكأنها قال: هذا في الآخرة فما لنا في الدنيا؟

فقال: {وأخرى تحبونها نصر من اللَّه وفتح قريب .. وبشر المؤمنين} ...

فلله ما أحلى هذه الألفاظ وما ألصقها بالقلوب .. وما أعظمها جذبا لها وتيسيرًا إلى ربها، وما ألطف موقعها من قلب كل محب .. وما أعظم غنى القلب وأطيب عيشه حين تباشره معانيها .. فنسأل اللَّه من فضله ...

ومن ذلك قوله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللَّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل اللَّه لا يستوون عند اللَّه واللَّه لا يهدى القوم الظالمين. الذين آمنوا وهاجروا في سبيل اللَّه بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند اللَّه وأولئك هم الفائزون. يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن اللَّه عنده أجر عظيم} [سورة التوبة: 19 - 22].

فأخبر سبحانه وتعالى لا يستوى عنده عمارة المسجد الحرام وهو همارة بالاعتكاف والطواف والصلاة؛ وأهل سقاية الحاج؛ لا يستوون هم وأهل الجهاد في سبيل اللَّه، وأخبر أ، المؤمنين المجاهدين أعظم درجة عنده وأنهم هم الفائزون؛ وأنهم أهل البشارة بالرحمة والرضوان والجنات .. فنفي التسوية بين المجاهدين وعمارة المسجد الحرام مع أنواع العبادة مع ثنائه على عماره؛ بقوله تعالى: {إنما يعمر مساجد اللَّه من آمن باللَّه واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا اللَّه فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [سورة التوبة: 18].

فهؤلاء هم عمارة المساجد .. ومع ذلك فأهل الجهاد (أرفع درجة) عند اللَّه منهم ..

قال تعالى: {لايستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل اللَّه بأموالهم وأنفسهم فضل اللَّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد اللَّه الحسنى وفضل اللَّه المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان اللَّه غفورا رحيما} [سورة النساء: 95، 96]