الاقتصاد الإسلامي (4) مدخل ومنهاج

بقلم الأستاذ الدكتور: عيسى عبده

أستاذ الاقتصاد بالجامعة

الاقتصاد الإسلامي

ليس عجيبًا بعد هذه الإشارة الخاطفة أن نرى خاصة الفرنسيين من حول الملك ومن رواد الصالونات المترعة بألوان المتاع الذي لا يعرف حدًا من العرف ولا من القانون (ولندع ذكر الذين جانبًا تنزيهًا له عن مواطن السوء)، وقد انطوت نفوسهم على إكبار للهنود الحمر، مثلا أصحاب أمريكا الأصليين .. ومن جرى في حياته على شاكلتهم من حيث البساطة والقربى إلى الطبيعة وهي الأصل .. وإليها تعود أسباب المتاع كما تعود الأبدان جميعًا.

وكان من جماعة الطبعيين رجال قانون (من المحامين بوجه خاص) وكان إدراكهم للحق مستندًا إلى مصادر قديمة كفلسفة الأغريق وشرائع الرومان، ورأى هؤلاء أن للحق قدسية لا تستمد من هذه الأوضاع المنهارة وإنما تستمد من جملة الأوضاع الثابتة للطبيعة بما في ذلك ما يكون بين الأشياء وبين أفراد الناس من علاقات هي في جوهرها كالقواعد الآمرة التي لا يترتب على عصيانها مجرد الجزاء، وإنما يترتب على جهلها أو تحديها عن قصد ضياع المجتمعات .. وهكذا تضافرت جهود العلماء من هذه الجماعة الخاصة على القول بأن الطبيعة المصدر الوحيد للثروة والنماذج التي تتخذ في كل نشاط إنساني يراد له البقاء.

قالوا بأن الزراعة هي الصورة الخالدة الصافية لما يمكن للإنسان أن يستمده من الثروة بالمعنى الاقتصادي، ومن ثم رفعوا الزراعة فوق غيرها من صور السعي لكسب المعاش.

وقالوا بأن حياة الريف بما فيها من بساطة وهدوء هي الحياة الأفضل على الرغم مما يبدو على هذه الجماعة الآخر بأسباب الفضيلة، من زهد نسبي في متاع الحياة الدنيا، فإن الكتاب الثقات يقولون بأن الاقتصاد الحديث تأثر بكتابات الطبيعيين في كل من أسلوب البحث والهدف منه. فمن الأسلوب يقال بحق إن الطبيعيين عرفوا بدقة المتكلمين والمناطقة وكان لحرصهم هذا على الالتزام بالمنهج العلمي الدقيق في تحليل المسائل المطروحة على بساط البحث وسلامة الترابط بين المفردات واستخلاص النتائج كان لحرصهم هذا مع الثبات عليه في معظم كتاباتهم آثار كبيرة على أساليب البحث التي اتخذها من جاء بعدهم من الكتاب الذي عرضوا المادة ((الاقتصاد)).

وأما الهدف الذي شغلهم تحقيقه، فقد أكسبهم احترام الأجيال من عهدهم إلى يومنا هذا ... ذلك أن هدفهم هذا لا يذكر لمجرد القول بأن غيرهم قد تابعهم فيه بل يذكر لما فيه من تشريف لتاريخ الدراسات الاقتصادية كلها .. ذلك أنه قبل كيزناي وجماعته ما كانت تلك الدراسات تثير في النفس السوية أي احترام بل كانت تتراوح بين تثبيت الظلم وتغليب القهر فوق الحق وإشاعة الفساد .. فإن كان بين الأهداف ما هو أقل بعدًا عن الإنسانية فهو الملق والرياء، أو التقرب إلى السلطان .. كأنما كانت هذه القربى غاية الغايات من الدراسات.

وعلى هذا الذي أوجزناه في كلمات ... إجماع .. فقد كان الهدف الأول من البحث في الاقتصاد السياسي هو توفير فائض من المعدن النفيس لتمكين الملك من دفع رواتب الجند ورشوة قواد الأعداء (كما ذكرنا من قبل) .. وكان من الأهداف أيضًا إثارة الطريق أمام التجارة لتحقيق أضعاف مضاعفة من الثروات .. وملء خزانة الملك مع خزائن المقربين .. وإلى هنا وصل اجتهاد الرواد الأوائل .. قبل ((كيزناي)) أو ذلك مبلغهم من العلم!!

فلما عكف الطبيعيون على التقعيد لمذهبهم كان هدفهم (لأول مرة في تاريخ الاقتصاد الوضعي) توجيه الدراسات الاقتصادية إلى الكشف عن الوسائل الفاعلة التي تقدر على التخفيف من آثار الحرمان أو الفقر المهدر لكرامة الآدمي.

ومن هذا التحول المبكر - في عهد الطبيعيين - نحو هدف إنساني .. اصطبغت الدراسات الاقتصادية بصبغة تؤهلها للدخول في ميادين الدراسات الإنسانية، وعلى هذا النهج سار الكتاب حتى أصبح الهدف الأول في الدراسات الحديثة والمعاصرة هو ما فكر فيه الطبيعيون .. وإن زاد على تتابع الجهود صقلاً وتهذيبًا .. فيقولون مثلاً .. بأن الهدف ((هو تحقيق حياة أفضل لجملة الناس)) أو يقولون: ((هو رفع مستوى الرفاهة وتوفير مزيد الأمن)) .. وسنصرف النظر إلى هنا بعد ما بين الأقوال والأعمال ولكن هكذا يقرر الكتاب وبهذا ينادى قادة الفكر الاقتصادي من بعد ((كيزناي)) ومدرسته ولكن نستبين مدى الجرأة والصلابة متى تميزت بها هذه الجماعة من العلماء من نلاحظ أن أحدًا من قبلهم (فيما بين القرن الخامس عشر والثامن عشر) لم يحاول في صراحة أن يقول بأن الدراسة العلمية المنهجية .. إنما تهدف إلى الإنصاف وتخفيف الشقاء عن الكادحين، فقد كانت أقوال كهذه تعتبر عظة لا محربًا بها ولا بمصدرها، كما تعتبر إثارة للشغب ومن ثم تكون سببًا للمساءلة أمام القانون وما يؤيده من تعذيب ومن سجون إن صح أن يكون هذا هو القانون!!

وسنلمس الأثر الكبير للطبيعيين حين نرى سلوك غيرهم من قبلهم، من العلماء دائمًا فقد كتب (فوبان) مثلاً قبل عدهم بنحو ستين سنة (أي في سنة 1717)، وظهرت في كتاباته علامات الاهتمام بشئون الناس كافة: والدرجات الكادحة والفقير خاصة .. ولم يسعه إلا أن يبرر هذا المسلك غير المألوف من علم رزين، سجل التاريخ اعتذاره الذي صاغه في عبارة تناقلتها الأجيال .. قال مبررًا عنايته بشئون الضعفاء، ((إذا بتأس الشعب، افتقر الملك، ومن ثم يكون اهتمامه بصلاح حال الكثرة إنما يراد به تحقيق المزيد من الثراء والرفاهة لمن في رعايته))!!

ولقد ذهب الدارسون في تقدير مثل هذه الأقوال المنسوبة إلى فوبان مذاهب شتى لا تخلو من الاجتهاد .. ومن ثم ظهر الخلاف بين كاتب وآخر عند تحديد العلاقات الكبرى على طريق الفكر الاقتصادي .. وعند تقدير الوزن الصحيح لكل مدرسة وحساب ما لها وما عليه. (يتبع).