الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وبعد، فإن الحديث اليوم - بعون الله وتوفيقه - عن الوتر، من حديث أبي هريرة، وأبي ذر، وأبي الدرداء، رضي الله عنهم: أوصاني خليلي (حبيبي) صلي الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام. (متفق عليه).

وصلاة الوتر من آكد السنن، بل قال الأحناف بوجوبها، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الوتر سنة مؤكدة باتفاق المسلمين، ومن أصر على تركه فإنه ترد شهادته (1)، ثم قال: والوتر أوكد من سنة الظهر والمغرب والعشاء.

والوتر أفضل من تطوعات النهار كصلاة الضحى، بل أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل وأوكد ذلك الوتر وركعتا الفجر، والله أعلم.

والدليل على أن الوتر ليس بواجب حديث الأعرابي الذي سأل النبي صلي الله عليه وسلم عن الإسلام فقال له: (خمس صلوات في اليوم والليلة) قال: هل عليَّ غيرها ؟ قال: (لا، إلا أن تطوع).

قال المروزي: الوتر ليس بواجب، وأدلة ذلك:

1- أحاديث الصلوات الخمس في اليوم والليلة.

2- أن الفرض محدد الركعات، أما الوتر ففيه ركعة، وثلاث، وخمس، وسبع، فلو كان فرضًا لكان محدد العدد، لا يجوز الزيادة فيه، ولا النقص منه.

3- جواز فعله على الراحلة، وثبوت الأحاديث في ذلك.

4- تنازع الناس في وجوبه، فلما سئل سفيان بن عيينة: هل الوتر واجب ؟ قال: لو كان واجبًا لم تسألني (انتهى بتصرف).

أوكد السنن: قال البغوي في شرح السنة: أفضل الصلوات وآكدها بعد الفرائض الخمس ما يؤدى جماعة من السنن وهي خمس: صلاة العيدين، والخسوفين، والاستسقاء، فأوكد هذه الخمس صلاة العيدين، ثم صلاة الخسوف، ثم صلاة الاستسقاء، ثم بعد هذه الصلوات أوكد التطوعات الوتر، ثم ركعتا الفجر، قال الشافعي: من ترك واحدة منها كان أسوأ حالاً ممن ترك جميع النوافل، ثم بعدها سائر سنن الرواتب سواء في الوكادة (انتهى).

أما من أوجب الوتر فأدلته.

حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (إن الله قد زادكم صلاة - وهي الوتر - فحافظوا عليها).

وحديث حارثة بن حذافة قال: خرج علينا رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: (إن الله أمركم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر، وجعلها بين صلاة العشاء وطلوع الفجر).

وحديث بريدة الأسلمي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا).

ولا يتضح من تلك الأحاديث فرضية الوتر، خاصة وأنه في حديث الإسراء قوله تعالى: (إنه لا يبدل القول لدي) وظاهره أنه لا يزاد فيها، ولا ينقص منها.

هذا والخلاف في هذه المسألة صوري (غالبًا) لأن القائلين بالوجوب هم الأحناف.

والواجب عندهم ليس هو الفرض.

قال الجزري في الفقه على المذاهب الأربعة: الواجب عند جمهور العلماء يقابل الفرض إلا الأحناف، فالواجب عندهم قريب من السنة المؤكدة عند غيرهم، فهم يقولون: الواجب أقل من الفرض.

وهو ما ثبت بدليل فيه شبهة، ويسمى فرضًا عمليًّا بمعنى أنه يعامل معاملة الفرائض في العمل، فيأثم بتركه، ويجب فيه الترتيب، والقضاء، ولكن لا يجب اعتقاد فرضيته، وذلك كالوتر، فإنه عندهم فرض عملاً لا اعتقادًا، فيأثم تاركه، ولا يكفر منكر فرضيته بخلاف الصلوات الخمس، فإنها فرض عملاً واعتقادًا فيأثم تاركها، ويكفر منكرها، على أن تارك الواجب عند الحنفية لا يأثم إثم تارك الفرض، فلا يعاقب بالنار على التحقيق، بل يحرم من شفاعة الرسول صلي الله عليه وسلم، وبذلك تعلم أن الحنفية يقولون: واجب على السنن المؤكدة، ويرون من أحكامها أنها إذا تركت في الصلاة سهوًا تجبر بالسجود (انتهى).

جاء في الفتح: قال ابن التين: اختلف في الوتر في سبعة أشياء: في وجوبه، وعدده، واشتراط النية فيه، واختصاصه بقراءة، واشتراط شفع قبله وفي آخر وقته، وصلاته في السفر على الدابة، قلت (أي ابن حجر): وفي قضائه، والقنوت فيه، وفي محل القنوت في، وفيما يقال فيه، وفي فصله، ووصله، وهل تسن ركعتان بعده ؟، وفي صلاته من قعود، وقد اختلفوا في أول وقته أيضًا، وفي كونه أفضل التطوع، أو الرواتب أفضل، أو خصوص ركعتي الفجر (2).

الأحاديث الواردة في صلاة الوتر:

(1) عن ابن عُمرَ، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (صلاةُ الليْلِ مَثْنى مَثْنى، فإذا خشي أحدُكم الصبحَ؛ صلى ركعةً واحدةً، توترُ له ما قدْ صلى). متفق عليه

(2) وعنه، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (الوترُ ركعةٌ منْ آخر الليْل).رواه مسلم.

(3) وعن عائشة، قالتْ: كان رسولُ الله صلي الله عليه وسلم يُصلي من الليْل ثلاثَ عشرةَ ركعةً، يُوتِرُ منْ ذلك بخمس، لا يجلسُ في شيءٍ ألا في آخرها. متفق عليه.

(4) وعن سعد بن هشام، قال: انطلقتُ إلى عائشة، فقلتُ: يا أم المؤمنين ! أنبئيني عنْ خلق رسول الله صلي الله عليه وسلم. قالت: ألست تقرأ القرآن ؟ قلتُ: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صلي الله عليه وسلم كان القرآن. قلتُ: يا أم المؤمنين ! أنبئيني عنْ وتر رسول الله صلي الله عليه وسلم. فقالت: كنا نعدُّ له سواكه و طهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك، ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله، ويحمده، ويدعوه، ثم ينهض، ولا يُسلم، فيصلي التاسعة، ثم يقعد، فيذكر الله، ويحمده، ويدعوه، ثم يسلم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعدٌ، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بُني ! فلما أسنَّ صلي الله عليه وسلم وأخذ اللحم، أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأولى، فتلك تسعٌ يا بُني ! وكان نبي الله صلي الله عليه وسلم إذا صلى صلاةً أحبَّ أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نومٌ أو وجع عن قيام الليل، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعةً، ولا أعلم نبي الله صلي الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلةٍ، ولا صلى ليلةً إلى الصبح، ولا صام شهرًا كاملاً غير رمضان. رواه مسلم. َّ

(5) وعن ابن عمر، عن النبي صلي الله عليه وسلم، قال: (اجعلوا أخر صلاتكم بالليل وترًا). رواه مسلم. وفي رواية: (الوتر ركعة في آخر الليل).

(6) وعنه، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (بادروا الصبح بالوتر). رواه مسلم.

(7) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلك:(من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودةٌ، وذلك أفضل). رواه مسلم.

(8) وعن عائشة، قالت: من كل الليل أوتر رسول الله صلي الله عليه وسلم: من أول الليل وأوسطه، وآخره، وانتهى وتره إلى السحر. متفق عليه.

(9) عن غضيف بن الحارث، قال: قلتُ لعائشة: أرأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يغتسل من الجنابة في أول الليل أم في آخره ؟ قالت: رُبَّما اغتسل في أوَّل الليل، وربما اغتسل في آخره. قلت: الله أكبر ! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة  قلت: كان يوتر في أول الليل أم في آخره ؟ قالت: ربما أوتر في أول الليل وربما أوتر في آخره قلت: الله أكبر الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، قلتُ: كان يجهرُ بالقراءة أم يخفت ؟ قالت: ربما جهر به، وربما خفت. قلتُ: الله أكبر ! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعةً. رواه أبو داود ' وروى ابن ماجه الفصل الأخير.

(10) وعن عبد الله بن أبي قيس، قال: سألتُ عائشة: بكم كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يوتر ؟ قالت: كان يوتر بأربع، وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة، رواه أبو داود.

(11) وعن أبي أيوب، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (الوتر حقٌ على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل). رواه أبو داود، والنسائي وأبن ماجه.

(12) وعن علي، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إن الله وتر يحب الوتر، فأوْتِرُوا يا أهل القرآن !). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي.

(13) وعن عبد العزيز بن جُريج، قال: سألنا عائشة (رضي الله عنها): بأي شيءٍ كان يوتر رسول الله صلي الله عليه وسلم ؟ قالت: كان يقرأ في الأولى بـ (سبح اسم ربك الأعلى)، وفي الثانية بـ (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثالثة بـ (قل هو الله أحد) والمعوذتين. رواه الترمذي (3)، وأبو داود.

(14) وعن الحسن بن علي (رضي الله عنهما) قال: علمني رسول الله صلي الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي.

(15) وعن أبي بن كعب، قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا سلم في الوتر قال: (سبحان الملك القدوس). رواه أبو داود، والنسائي، وزاد: ثلاث مرات يطيل [في آخرهن].

(16) وفي رواية للنسائي، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، قال: كان يقول إذا سلم: (سبحان الملك القدوس) ثلاثًا، ويرفع صوته بالثالثة.

(17) وعن علي (رضي الله عنه) قال: إن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك). رواه أبو داود، والترمذي، النسائي، وابن ماجه.

(18) عن ابن عباس، قيل له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية، ما أوتر إلا بواحدة ؟ قال: أصاب، إنه فقيهٌ. وفي رواية: قال ابن أبي مليكة: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس فأخبره فقال دعه فإنه قد صحب النبي صلي الله عليه وسلم. رواه البخاري.

(19) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا ذكر أو إذا استيقظ) رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه.

(20) وعن نافع، قال: كنت مع ابن عمر بمكة، والسماء مغيمةٌ، فخشي الصبح، فأوتر بواحدة، ثم انكشف، فرأى أن عليه ليلاً، فشفع بواحدة، ثم صلى ركعتين ركعتين، فلما خشي الصبح أوتر بواحدة. رواه مالك.

(21) وعن عائشة: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يصلي جالسًا، فيقرأ وهو جالس،فإذا بقي من قراءته قدرُ ما يكون ثلاثين أو أربعين آية، قام وقرأ وهو قائم، ثم ركع، ثم سجد، ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك. رواه مسلم.

(22) وعن أم سلمة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يصلي بعد الوتر ركعتين. رواه الترمذي، و زاد ابن ماجه: خفيفتين وهو جالس.

(23) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يوتر بواحدة، ثم يركع ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع. رواهُ ابن ماجه.

(24) وعن ثوبان، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (إن هذا السهر جهدٌ وثقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن قام من الليل، وإلا كانتا له) رواه الدارمي.

(25) وعن أبي أمامة، أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يصليهما بعد الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما (إذا زلزلت) و (قل يا أيها الكافرون). رواه أحمد.

(26) عن عائشة قالت: كان النبي صلي الله عليه وسلم يصلي، وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت.

(27) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (من لم يوتر فليس منا) رواه أحمد، وفي إسناده الخليل بن مرة وهو ضعيف.

(28) عن ابن عمر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أوتر على بعير. رواه الجماعة.

(29) وعنه أنه كان يسلم بين الركعتين والركعة في الوتر، حتى إنه يأمر ببعض حاجته. رواه البخاري.

وللحديث بقية - إن شاء الله تعالي - بالعدد القادم.

---------------------------

(1) مجموع الفتاوى جـ23 ص 88.

(2) فتح الباري جـ 2 ص 555.

(3) وقال: حديث حسن غريب، قلت: وإسناده ضعيف، لكن رواه الحاكم (1/ 305) من طريق أخرى صحيحة، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

وروى الحديث أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي بن كعب، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس، وليس في روايتهما ذكر المعوذتين، وكذلك في رواية ابن أبزى عند النسائي، ولا منافاه بين ذلك وحديث عائشة إذ كل ذكر ما سمع، ولعله صلي الله عليه وسلم قرأ هذا أحيانًا وهذا أحيانًا.