نظرات في كتاب الرسالة للشافعي ( 3 )
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}
و أشهد أن لا إله إلا الله، و أشهد أن محمدًا عبده و رسوله، و بعد:
فهذا هو المقال الثالث تحت هذا العنوان: نظرات في كتاب الرسالة للشافعي، و كان المقال الأول كالتوطئة لهذا الموضوع، و المقال الثاني في ترجمة إمام الدنيا محمد بن إدريس الشافعي ـرحمه الله تعالىـ، وهذا المقال الأخير في كتاب الرسالة خاصة، و سأتناول فيه ستة أمور باختصار، و هي:
1ـ سبب تأليف الكتاب .
2 ـ إبرازات الرسالة .
3ـ اسم الكتاب .
4ـ موضوعات كتاب الرسالة .
5 ـ أهم شروح الرسالة .
6 ـ أهم طبعات كتاب الرسالة .
سبب تأليف الكتاب:
سبق أن الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ هو أول من صنف في هذا الفن ـ أصول الفقه ـ فكان بذلك أول من ألف في قواعد الأحكام التي تبين أدلة الفقه الإجمالية، و تضبط للناس طرق الاستنباط منها، وسبق أيضًا أنه ما قصد وضع لبنة علم جديد ـ و هو أصول الفقه ـ، و لا شرع في تأليف كتابه ابتداء لهذا، وإنما وضعه بطلب من الإمام المحدث عبد الرحمن بن مهدي ـ رحمه الله تعالى ـ ففتح الله به أفق هذا العلم الجليل، قال البيهقي في معرفة السنن و الآثار ( 1 /143 /171 ): « وهذا هو الذي أشار إليه عبد الرحمن بن مهدي، وهو أحد أئمة هذا الشأن، ولأجله صنف الشافعي كتاب الرسالة، وإليه أرسله.»
و إنما تيسر ذلك للشافعي كما سبق لاجتماع علمي أهل الحديث، و أهل الرأي عنده، وتمتعه بهذه الملكة التقعيدية، قال النووي في وصف الشافعي [ تهذيب الأسماء و اللغات ( 1 / 49 ) ]: «وهو المبرز فى الاستنباط من الكتاب و السنة، البارع فى معرفة الناسخ و المنسوخ، و المجمل و المبين، و الخاص و العام، و غيرها من تقاسيم الخطاب، فلم يسبقه أحد إلى فتح هذا الباب ؛ لأنه أول من صنف أصول الفقه بلا اختلاف و لا ارتياب.»
إبرازات الرسالة:
لرسالة الإمام الشافعي إبرازتان مشهورتان:
الأولى: التي كتبها ببغداد أو مكة للإمام عبد الرحمن بن مهدي، و تعرف بالرسالة القديمة، أو العتيقة، أو البغدادية، أو العراقية، و هي التي كتبها عام: 195هـ تقريبًا، و قد خطها بيده، و أرسلها إلى الحافظ عبد الرحمن بن مهدي مع الحارث بن سريج الذي سمي بالنقال ؛ لنقله رسالة الشافعي لابن مهدي، وهذه لم يعد لها أثر إلا ما ينقله بعض أهل العلم منها كالجويني و الغزالي، و قد لا تجد بعض العبارات التي ينقلها هؤلاء في الرسالة الجديدة .
الثانية: الكتاب الذي أملاه في مصر، و نقله عنه الإمام الربيع المرادي، و قد أملاها ما بين عام: 199هـ و هو عام دخوله مصر، و عام: 204هـ و هو عام وفاته فيها، و قد رجح العلامة أحمد شاكر في مقدمة تحقيقه للرسالة بأنه كانت إملاء قال ( ص 12 ): « والراجح أنه أملى كتاب الرسالة على الربيع إملاء، كما يدل على ذلك قوله في (337): " فخفف فقال: {علم أن سيكون منكم مرضى}، قرأ إلى: فاقرؤا ما تيسر منه}.
فالذي يقول " قرأ " هو الربيع، يسمع الإملاء و يكتب، فإذا بلغ إلى آية من القرآن كتب بعضها ثم يقول " الآية " أو " إلى كذا "، فيذكر ما سمع الانتهاء إليه منها، ولكن هنا صرح بأن الشافعي قرأ إلى قوله: { فاقرؤا ما تيسر منه}.»
و الرسالة الجديدة هي التي في أيدي الناس الآن يتداولونها، و هي ليست كتابًا جديدًا، بل هي إبرازة ثانية محكمة من الرسالة القديمة .
و قد كانت الإبرازتان متداولتين في أيدي أهل العلم، يكتبونهما، أو تنسخ لهم، و ممن كتبهما الإمام أحمد بن حنبل، و مما يشير إلى ذلك قول فوران: قسمت كتب الإمام أبي عبد الله [ يعني: أحمد بن حنبل] بين ولديه، فوجدت فيها رسالتي الشافعي "العراقية"، و"المصرية"، بخط أبي عبد الله -رحمه الله-.
[ انظر: ترجمة الإمام الشافعي في سير أعلام النبلاء ( 10 / 57 ) ]
اسم الكتاب:
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الشافعي لم يسم كتابه بهذا الاسم: الرسالة، و إنما هو اسم اكتسبه الكتاب من إرساله لابن مهدي، قال الشيخ أحمد شاكر في مقدمة الرسالة ( ص 12 ): « والشافعي لم يسم " الرسالة " بهذا الاسم، إنما يسميها (الكتاب) أو يقول " كتابي " أو " كتابنا ".
وانظر الرسالة (رقم 96، 418، 420، 573، 625، 709، 953) وكذلك يقول في كتاب "جماع العلم" مشيرًا إلى "الرسالة " وفيما وصفنا ههنا وفي "الكتاب" قبل هذا " (الأم 7: 253) .
و يظهر أنها سميت " الرسالة " في عصره، بسبب إرساله إياها لعبد الرحمن بن مهدي . »
و يدل على اشتهار الكتاب باسم الرسالة في عصر الشافعي قول عبد الرحمن بن مهدي الذي كتب لأجله الشافعي كتاب الرسالة:« لما نظرت في كتاب الرسالة لمحمد بن إدريس أذهلتني ؛ لأنني رأيت كلام رجل عاقل فقيه ناصح، و إني لأكثر الدعاء له .» [ تاريخ دمشق، لابن عساكر ( 51 / 324 ) ]
موضوعات كتاب الرسالة:
تناول كتاب الرسالة لب موضوعات أصول الفقه، فقد تناول موضوعين رئيسين، و موضوعات فرعية:
الموضوع الأول: أدلة الأحكام التي يستدل بها: و قد تناول تحته ستة من الأدلة، و هي:
الدليل الأول: القرآن، و الثاني: السنة ـ و قد ذكر تحت هذا الدليل أبوابًا كثيرة من أبواب أصول الحديث، و هو أول مؤلف يذكر فيه هذه الجمل من أصول الحديث، و قد تناول تحته الحجة في تثبيت خبر الواحد ـ و الثالث: الإجماع، و الرابع: القياس، و الخامس: الاستحسان، و السادس: أقاويل الصحابة، و قد تناول فيه أيضًا بيان مراتب الأخذ بالأدلة.
الموضوع الثاني: كيفية الاستدلال بالوحيين، و هو أكثر الكتاب، و هو الذي يعرفه كثير من أهل العلم بباب البيان، و قد تناول تحته موضوعات: المجمل و المبين، و العام و الخاص، و المطلق، و المقيد، والظاهر، و النص، و صفة الأمر و النهي، و الناسخ و المنسوخ ...
و أما الموضوعات الفرعية فقد تناول في كتابه:
ـ أنواع العلم من حيث كونها: عينية، أو كفائية، و من حيث كونها قطعية، أو ظنية .
ـ الاجتهاد، و بيان جوازه، و أنه يقع على الظاهر من الأدلة للمجتهد .
ـ الاختلاف، و بيان أنواعه .
ـ بيان ضوابط الأخذ بالرأي .
ـ جمل الفرائض .
ـ جمل المحرمات .
و قد تناول في كتابه كثيرًا من الأمثلة من الكتاب و السنة و المسائل الفقهية لإيضاح ما يريد، و الكتاب كتب على الطريقة الحوارية بافتراض بعض المناظرين السائلين عن موضوع من الموضوعات، ثم يجيب عنه الإمام، و يورد المحاور بعض الإيرادات على القول، أو بعض الاعتراضات على الاستدلال، ثم يجيب عنها الإمام .
أهم شروح الرسالة:
عني كثير من أهل العلم بشرح كتاب الرسالة للشافعي، و قد ذكر عبد الله محمد الحبشي في جامع الشروح و الحواشي ( 2 / 950، 951 ) منها تسعة شروح، و هي:
1- دلائل الأعلام في شرح رسالة الإمام، لأبي بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن يزيد الصيرفي المطيري ( المتوفى: سنة 330هـ )
2ـ شرح رسالة الإمام الشافعي، لأبي الوليد حسان بن محمد بن أحمد بن هارون القرشي ( المتوفى سنة: 349هـ ).
3ـ شرح رسالة الإمام الشافعي، لأبي بكر محمد بن علي بن إسماعيل، ( المتوفى سنة: 365هـ )
4ـ شرح رسالة الإمام الشافعي، لأبي بكر بن محمد بن عبد الله الشيباني الجوزقي النيسابوري ( المتوفى سنة: 388هـ )
5ـ شرح الرسالة، لأبي محمد عبد الله بن يوسف، الجويني، والد إمام الحرمين ( المتوفى سنة: 438 هـ).
6ـ شرح الرسالة، لأبي زيد عبد الرحمن الجزولي .
7ـ شرح رسالة الإمام الشافعي، لجمال الدين ... الأفقهسي .
8ـ شرح الرسالة، لابن الفاكهني .
9ـ شرح الرسالة، لأبي القاسم عيسى بن ناجي .
[و جميع هذه الشروح لم يطبع منها شيء، و لا يعلم أماكن وجودها، فحري بطلاب العلم تشمير ساعد الجد للبحث عنها في فهارس المخطوطات، لتخرج لعالم الطباعة . ]
10 ـ سبك المقالة في شرح الرسالة، و هو شرح للرسالة لبعض المعاصرين، و هو: أ.د. محمد بن عبد العزيز المبارك، الأستاذ في كلية الشريعة ـ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عام: 1437هـ . [ و يوجد منه نسخة pdf على الشبكة العنكبوتية ]
• و قد خر ج أحاديث الرسالة، جمال الدين يوسف بن شاهين سبط ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة: 899هـ) في كتاب سماه: ري الظمأ من صافي الزلالة بتخريج أحاديث الرسالة.
أهم طبعات كتاب الرسالة:
طبعت الرسالة طبعات كثيرة من أهمها ثماني طبعات، و هي:
الأولى: طبعة المطبعة العلمية عام: 1312هـ بتصحيح: يوسف صالح محمد الجزماوي.
الثانية: طبعة المطبعة الشرفية عام: 1315هـ، عن نسخة منقولة من خط الربيع، الناشر: الشيخ سليم سيد أحمد إبراهيم شرارة القباني.
الثالثة: طبعة المطبعة الأميرية ببولاق عام:1321هـ مع كتاب الأم للشافعي، و قد طبعت على نفقة السيد أتحمد بك الحسيني المحامي.
الرابعة: تحقيق: أبي الأشبال أحمد محمد شاكر، بتاريخ: 1358هـ ـ 1939 م، وقد طبعته مطبعة: مصطفى البابي الحلبي، و قد أعاد تصوير هذه النسخة دار الذخائر، و لا شك أنها من أفضل طبعات هذا الكتاب، فلا تذكر طبعات كتاب الرسالة إلا و يذكر تحقيق العلامة: أحمد شاكر، و قد اعتمد في تحقيقه على نسختين خطيتين، و هما: النسخة التي اعتقد أنها بخط تلميذ الشافعي الربيع بن سليمان المرادي، و أنها كتبت في حياة الشافعي ـ أي: قبل آخر رجب سنة: 204 هـ، و قد كتب الربيع عليها إذنًا بنسخها عام: 265 هـ، وهذه صيغة إجازة الربيع نسخ الكتاب، قال في آخره: « أجاز الربيع بن سليمان صاحب الشافعي نسخ كتاب الرسالة، وهي ثلاثة أجزاء، في ذي القعدة سنة: خمس و ستين و مائتين، و كتب الربيع بخطه.»
و لنفاسة هذه النسخة اعتمد عليها فجعلها أصلاً لتحقيقه، و النسخة الأخرى: نسخة ابن جماعة، و قد جعلها فرعًا، و النسختان محفوظتان في دار الكتب المصرية، بالإضافة إلى الاستعانة بطبعات الكتاب الثلاثة السابقة، و قد وثق المحقق السماعات التي كتبت على الرسالة التي اعتقد أنها بخط الربيع، و التي تبدأ من عام: 394 هـ، و تنتهي عام: 856 هـ، و وصفها بأنها سماعات متصلة الأسانيد، و قد بلغ عدد الأعلام في هذه السماعات ثلاثمائة اسم، و قد بلغ عدد السماعات التي سجلها الشيخ 68 سماعًا تبدأ بالسماع على عبد الرحمن بن عمر بن نصر عام: 394 هـ، و تنتهي بالسماع على الجمال بن جماعة عام 856هـ.
و قد وقع للشيخ هنات في تحقيقه ـ و السعيد من عدت أخطاؤه ـ و أغلب الهنات التي وقعت للشيخ أحمد شاكر في تحقيق الكتاب لأجل اعتماده نسخة الربيع أصلاً لا يحيد عنه و لو كان خطؤه لائحًا، و قد اعتنى الشيخ بذكر فروق النسختين في حاشية الكتاب، و قد قسم نص الكتاب إلى فقرات مرقمة بلغت: 1821 فقرة، و علق عليه تعليقات ماتعة من الجهة الحديثية و الفقهية.
وعلى طبعة الشيخ شاكر اعتمد د. محمد حاج عيسى في بحثه المقدم لنيل درجة التخصص (الماجستير) عام: 1421 هـ، بعنوان: التوضيح و التصحيح للمنقول عن الشافعي في علم الأصول، و قد انتقد تحقيق الشيخ شاكر في مواضع أصاب في أغلبها، و كلها راجع إلى المنهج الذي اتبعه الشيخ في تحقيق الرسالة، و هي رسالة علمية جيدة، اطلعت على بعضها.
الخامسة: تحقيق: خالد السبع العلمي، و زهير شفيق الكبي، و قد طبعته: دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية 1421 هـ، و قد اعتمدا على تحقيق الشيخ أحمد شاكر، و إن زادا توثيق بعض الأقوال، و استكمال تخريج الأحاديث، و بعض التعليقات.
السادسة: تحقيق: د. عبد الفتاح ظافر كبارة، وقد طبعته: دار النفائس، الطبعة الثانية 2010 م، وقد اعتمد فيها على تحقيق الشيخ أحمد شاكر، و زاد عليه بعض التعليقات الأصولية، و بيَّن قراءة الإمام الشافعي، و قد سبق إنه كان يقرأ بقراءة عبد الله بن كثير، و ناقش الشيخ أحمد شاكر في بعض الترجيحات الحديثية و الفقهية.
السابعة: تحقيق: د. رفعت فوزي، في أول تحقيقه لكتاب الأم، و قد حققه على نسختين خطيتين: الأولى: نسخة مكتبة أحمد الثالث، و الأخرى: نسخة المكتبة المحمودية، بالإضافة لنسخة الشيخ أحمد شاكر، لكنها لم يجعل النسخة التي جعلها الشيخ أحمد شاكر أصلاً، بل عمل بطريقة النص المختار، ولم يجعل نص الرسالة في فقرات مرقمة كما فعل الشيخ أحمد شاكر ؛ لأمرين: الأول: كبر حجم الرسالة. و الآخر: أنها تقطع النص.
الثامنة: تحقيق: د. علي بن محمد بن ونيس، و قد طبعته: دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى 1439 هـ، و قد اعتمد في تحقيقه على ست نسخ خطية، و هي: نسخة من دار الكتب المصرية رقم: 6546، نسخة من المكتبة الأزهرية برقم: 33087، نسخة محفوظة بمكتبة برلين برقم: 1827 or.otcms، نسخة من مكتبة تشستر بيتي تحت مجموع رقم: 3907 [ 101 ـ 185 ]، نسخة من مصورات مكتبة تشستر بيتي تحت مجموع رقم: 3385، نسخة من مصورات مكتبة تشستر بيتي تحت مجموع رقم: 4751، بالإضافة إلى طبعة الشيخ أحمد شاكر، و بالإضافة إلى بعض ما يعتبر نسخ فرعية كنقول العلماء عن نص الرسالة كالبيهقي، و ابن الأثير، و ابن العراقي، و الزركشي، و قد عمل في تحقيق الكتاب بطريقة النص المختار، و قد قدم للكتاب بمقدمة بلغت مجلدة كاملة، وقد علق على الرسالة تعليقات أصولية ماتعة، وناقش الردود والمؤاخذات التي أوردت على الكتاب، وأثبت الأقوال التي للشافعي في المسألة، و كذا الوجوه التي لأصحابه، و قارن بين مصطلحات الشافعي و مصطلحات الأصوليين من بعده، وبسط بعض المباحث الحديثية التي تناولها الشافعي في أصول الحديث، و خرج أحاديثها، فهي أفضل طبعات هذا الكتاب.
أخيرًا، و قد آن أن لي أضع القلم أختم هذه المقالة بقول المزني: « قرأت الرسالة خمسمائة مرة، ما من مرة منها إلا و استفدت فائدة جديدة لم أستفدها في الأخرى.»
هذا ما يسره الله تعالى في تلك النظرات لكتاب الرسالة، و هي و إن كانت غير لائقة بمكانة الكتاب ومكانة صاحبه إلا أنها قد تفي بنظرة سريعة للمتعجل، و الله أحكم، و أعلم.