غزوة بدر (الحلقة الثانية)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من نبي لا بعده أما بعد؛ فإن لدراسة السيرة النبوية أعظم الأثر في صياغة شخصية المسلم قائدا وتابعًا آمرا ومأمورا وفي كل حال ولذلك أوصى بها السابقون؛ ومن ذلك ما قال الزهري "في علم المغازي علم الآخرة والدنيا"[1]

وها نحن نواصل السير في صحبة أهل بدر، ولا نزال في الطريق إلى موطن النصر وعلى مقربة من يوم الفرقان، ونذكر الآن ثلاثة مواقف

الأول: مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في المشقة والتعب

لقد كان جيش بدر في حالة إعواز من الظهر؛ حيث كان معهم سبعون من الإبل يتناوبون عليها حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حالهم دعا لهم فقال: "اللهم إنهم حفاة؛ فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم"[2]، وهنا تتجلى عظمة القائد صلى الله عليه وسلم ؛ حيث يشترك معهم في التناوب على المشي؛

 عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، زَمِيلَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: فَقَالَا: نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ! فَقَالَ: " مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا!"[3]

فما أروع هذا الموقف عندما يستوي القائد والجند في تحمل الشدائد وقد تملكهم الصدق في التطلع إلى رضوان الله! وكيف لا يحتمل الجند المشاق وقائدهم يسابقهم في ذلك, ولا يرضى أن يكون دونهم في مواجهتها، وهو في الخامسة والخمسين من عمره!![4]. وهذا درس عظيم للقادة على مختلف المستويات بداية من قيادة الأسرة حتى قيادة الأمة؛ ليعلم الجميع: أن مواساة القائد جنده بنفسه وما يستطيع تستخرج من الجندي أقصى الطاقات وأعلى الطاعات وأشد الحب، وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم مليئة بهذه المواساة والمساواة إلا إذا كان هناك عذر، أو كان هناك تقعيد لمبدأ[5].

وقوله: "زمِيلي رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي: عديليه، فالزميل هو الذي يركب معك على دابة واحدة بالتناوب أي: أن ثلاثتهم يتعاقبون بالركوب على بعير واحد..

وقوله: "نمشي عنك"؛ أي: نمشي في جميع الطريق لتركبَ أنت؛ ففيه منقبة لأبي لبابة وعلي رضي الله عنهما[6] .

وفيه غاية التواضع منه صلى الله عليه وسلم ، والمواساة مع الرفقاء، والافتقار إلي الله تعالي.[7]

وفيه حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الأجر، وتعليمه للأمة مكارم الأخلاق.[8]

الثاني: عظمة القائد في الحس الأمني وأخذ الحيطة لجيشة

لحق بالمسلمين رجل يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يشترك معه في الحرب ولما كان هذا الرجل مشركا والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم نيته رفضه في بادئ الأمر حتى أسلم؛ فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : "تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ؟" قَالَ: لَا، قَالَ: "فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ"، قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قَالَ: "فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ"، قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: "تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ؟" قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :"فَانْطَلِقْ"[9]

قوله: " حرة الوبرة ": بفتح الباء وسكونها؛ موضع على نحو أربعةَ أميال من المدينة.

وقوله صلى الله عليه وسلم : " ارجع فلن أستعين بمشرك " فيه رفض الاستعانة بالمشركين في الحرب، وقد جاء في حديث آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية قبل أن يسلم[10]، وبه استدل من قال: بالجواز

والحق أنه لا تعارض بينهما؛ فنحمل حديث عائشة رضي الله عنها في غزوة بدر على أمرين

أحدهما: أن الأصل عدم الاستعانة بالمشركين في الحرب

الثاني: أن الرجل أراد أن يشارك بنفسه ولا نعلم نيته؛ فلا يؤمن غدره، فوجب أخذ الحذر والحيطة لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم معلم للأمة.

ويحمل الحديث الثاني: على أنه لم يشترك في الحرب بنفسه وإنما استعار منه النبي صلى الله عليه وسلم سلاحا ثم رده إليه.

ويقال أيضُا: إن الحكم يختلف باختلاف الأشخاص والظروف، والتحريم أقرب في مثل ظروف بدر.

وقال ابن عثيمين: فإن قيل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد استعان بصفوان بن أمية في استعارة الدروع منه؟ قلنا: بلى لكن هذه استعانة بالمال، والذي نفاه الرسول صلى الله عليه وسلم هنا الاستعانة بالنفس؛ لأنه إذا أعاننا بنفسه لا نأمن خيانته أن يدل الأعداء على خفايا أسرارنا أما الاستعانة بالمال؛ فلا بأس، لأن الذين استعملوا الدروع هم المسلمون؛ فلا ضرر علينا؛ فلا يعارض هذا الحديث.

فإن قال قائل: أليس قد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط في الهجرة وهو بمشرك؟

فالجواب: أنه أمن خيانته؛ فمتى أمنا من خيانتهم واستفدنا منهم بالرأي أو بالقتال؛ فلا بأس؛ لأن الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا... فالذي يظهر: أن الأصل منع الاستعانة بالمشركين في الحرب لكن إذا كان هناك مصلحة ومنفعة محققة مع الأمن من غدرهم ومكرهم؛ فإن ذلك لا بأس به؛ لأنه مصلحة بلا مضرة والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا. فتح ذي الجلال والإكرام (5/ 469)

الثالث مشورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه

فقد ارْتَحَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطريقِ نَزَلَ وَقد أَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ؛ وإصرارهم على الحرب؛ فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم – النَّاسَ وأخبرهم عن قريش ...

وخشي فريق منهم المواجهة في وقت لم يتوقعوا فيه حربا كبيرة، ولم يستعدوا لها بكامل عدتهم؛ وفيهم نزل قول الله تعالى: "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهو ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين"

وتكلم قادة المهاجرين، منهم أبوبكر وعمر والمقداد بن عمرو رضي الله عنهم، وأظهروا شوقهم للمواجهة مهما كانت النتيجة؛ فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَاوَرَ النَّاسَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ [فقال وأحسن]؛ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ [ فقال وأحسن] فَأَعْرَضَ عَنْهُ[11]

عن ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: شَهِدْتُ مِنَ المِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ مَشْهَدًا، لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ رَجُلًا فَارِسًا- وَهُوَ يَدْعُو عَلَى المُشْرِكِينَ، فَقَالَ: فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا نَبِيَّ اللهِ، وَاللهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى صلى الله عليه وسلم : اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وَلَكِنْ امْضِ وَنَحْنُ مَعَكَ؛ نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْكَ فَكَأَنَّهُ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ"[12]

ورغم عظمة ما قاله قادة المهاجرين متضمنًا إقرار الأنصار؛ لأنهم يسمعون ولم ينكروا إلا أن

النبي صلى الله عليه وسلم استمر قائلا: أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَدَدُ النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّا بُرَاءٌ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إلَى دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إلَيْنَا، فَأَنْتَ فِي ذِمَّتِنَا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا؛ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّفُ أَلَّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ.[13]

فما أروع ما قالوا!

 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: " اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَخْرَجَهُ إِلَى بَدْرٍ؟ فَقَالَ قَائِلُ الْأَنْصَارِ: تَسْتَشِيرُنَا يَا نَبِيَّ اللهِ! إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا، إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوْ ضَرَبْتَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَاتَّبَعْنَاكَ.[14]

فتأمل هذا الرد، وكأنه ألهمه من كلام المقداد؛ رضي الله عنهم جميعا، أو هو اتحاد المبدأ ووحدة الهدف؛ فاتفق الكلام، ويأتي دور سعد بن معاذ رضي الله عنه سيد الأوس؛ لما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: وَاَللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجَلْ! قَالَ: قَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنحْن مَعَك، فو الّذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ. لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ فسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ..[15]؛ فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ. [16]

وأما سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رضي الله عنه؛ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا: أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا.[17]

وفي هذه المشورة فوائد كثيرة ويكفيك أن تتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ومع ذلك يقول: أشيروا علي أيها الناس؛ ففيه دليل على أنه يشرع للإمام أن يستشير أصحابه الموثوق بهم دينا وعقلا.

والحمد لله رب العالمين.



[1] الجامع للخطيب (2/195).

[2] سنن أبي داود (2747)، وحسنه الألباني في الصحيحة (1003).

[3] مسند أحمد (3901)، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح. 

[4] السيرة النبوية الصحيحة (2/ 355).

[5] الأساس في السنة (1/ 453).

[6] مرقاة المفاتيح (6/ 2519).

[7] شرح المشكاة للطيبي (8/ 2687)

[8] شرح المصابيح لابن الملك (4/ 369).

[9] صحيح مسلم (1817).

[10] سنن أبي داود (3563).

[11] صحيح أخرجه أحمد (13296).

[12] البخاري (3952و4609)، ومسند أحمد (4376). 

[13] دلائل البيهقي (3/ 34).

[14] مسند أحمد (12954) وإسناده على شرط البخاري.

[15] ابن هشام (1/ 615).

[16] ابن هشام (1/ 615).

[17] مسلم (1779).