غزوة بدر – الحلقة الأولى-

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وسلم. أما بعد؛ فما أحوج الأمة لدراسة مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأخذ الدروس والعبر، ولتتعلم منها الآداب الرفيعة، والأخلاق الحميدة، والعقائد السليمة، والعبادة الصحيحة، ومن ثم قال علي بن حسين: كنا نُعلَّم مغازي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسراياه كما نعلم السورة من القرآن. وعن إسماعيل بن محمد بن سعد قال: كان أبي يعلمنا مغازي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعدها علينا، وسراياه ويقول: يا بني، هذه مآثر آبائكم، فلا تضيعوا ذكرها.[1]

وها نحن الآن مع  أول لقاء مسلح بين فسطاط الكفر والإيمان؛ مع غزوة بدر الكبرى،  ويقال لها بدر القتال.[2] وبدر الثانية، وهي الوقعة العظيمة التي فرق الله فيها بين الحق والباطل.[3] قال ابن عبد البر: وكانت أشرف غزواته وأعظمها حرمة عند الله وعند رسوله وعند المسلمين غزوة بدر الكبرى، حيث قتل الله صناديد قريش، وأظهر دينه وأعزه الله من يومئذ، وكانت بدر في السنة الثانية من الهجرة لسبع عشرة من رمضان صبيحة يوم الجمعة.[4]

وسوف نعرضها بإذن الله تعالى على مرحلتين

الأولى: نسرد أحداث الغزوة سردا يصورها في ذهن القارئ إذا اكتملت.

الثانية: نذكر فيها الدروس والعبر؛ ليأخذ المسلمون منها الزادَ في مقارعة الأعداء ومنازلة الخصوم وفي الدعوة إلى الله.[5]

بين يدي الحدث:

هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد أن وقف زعماء مكة في وجه دعوته، وما إن وصل إلى المدينة حتى أرسلوا إلى أهل المدينة تهديدًا يقولون فيه: "إنّكم آويتم صاحبنا، وإِنَّا نُقْسِم بالله: لتُقَاتِلُنَّه، أو لَتُخْرِجُنَّه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم"[6]

وتجاه هذا التحريض أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه جانب الحَيطة والحذر؛ فكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، وكانوا يحرسون النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل : "والله يعصمك من الناس" فأخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه من القبة فقال : أيها الناس انصرفوا عني؛ فقد عصمني الله عز وجل.[7]

مشروعية القتال:

وفي هذه الظروف أذن الله للمؤمنين في القتال دفاعا عن أنفسهم؛ قال ابن القيم: فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيده الله بنصره بعباده المؤمنين الأنصار، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم؛ فمنعته أنصار الله وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر، وبذلوا نفوسهم دونه، وقدموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أولى بهم من أنفسهم،  وكانت العرب واليهود قد رمتهم عن قوس واحدة، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة؛ فأذن لهم حينئذ في القتال؛ فقال تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} [الحج: 39].[8] قال ابن عباس: هي أول آية أنزلت في القتال.[9]

فأرسل السرايا وخرج في الغزوات

- لإشعار عدوه بقوة المسلمين وقدرتهم على صد أي اعتداء يتعرضون له.

- وتهديد قريش في قوافلها التجارية إلى الشام.

- واختبار قوة القبائل المحيطة بالمدينة، ومحاولة كسبها بالموادعة أو المحالفة.

ولقد حققت السرايا والغزوات قبيل بدر كثيراً من أهدافها؛ فقد حالف النبي - صلى الله عليه وسلم قبيلة جهينة أكبر القبائل المنتشرة غربي المدينة، وأدرك زعماء مكة أن تجارتهم الرئيسية أصبحت في خطر؛ فصاروا يأخذون الحيطة كلما اقتربوا من المنطقة[10].

غزوة العشيرة

وفي جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مائة وخمسين مقاتلاً؛ لاعتراض قافلة كبيرة خرجت من مكة إلى الشام بقيادة أبي سفيان بن حرب، حتى إذا وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذي العُشَيْرَة[11] تبين له: أن القافلة تجاوزت إلى الشام؛ فأقام فيها مدة وادع خلالها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضَمْرَة ورجع إلى المدينة مترقبًا عودة القافلة، وهذه هي العير التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام[12]  وقد أقامت القافلة في الشام إلى نهاية شعبان، بقيادة أبي سفيان ثم اتجهت إلى مكة، ولما اقتربت من الحجاز؛ تحسس الأخبار، فلما بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده إياه؛ بادر إلى تحول مسارها إلى طريق الساحل، وفي نفس الوقت أرسل عمرو بن ضمضم الغفاري إلى قريش يستنفرها لإنقاذ قافلتها وأموالها[13]، وقد كان وقع خبر القافلة شديدًا على قريش، التي اشتاط زعماؤها غضبًا لما يرونه من امتهان للكرامة، وتعريض للمصالح الاقتصادية للأخطار؛ خاصة وأن الصريخ جاءهم بصورة مثيرة جدًا يتأثر بها كل من رآها، أو سمع بها، إذ جاءهم وقد حول رحله وجدع أنف بعيره، وشق قميصه من قُبُل ومن دُبُر، ودخل مكة وهو ينادي بأعلى صوته: يا معشر قريش: اللطيمة، اللطيمة,- يعني القافلة-  أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث، الغوث.

وعلى الرغم من أن أبا سفيان عندما نجا بالقافلة أرسل إلى زعماء قريش رسالة أخبرهم فيها بنجاته والقافلة، وطلب منهم العودة إلى مكة،  إلا أن أغلبهم أصر على التقدم نحو بدر من أجل تأديب المسلمين وتأمين سلامة طريق التجارة القرشية, وإشعار القبائل العربية الأخرى بمدى قوة قريش وسلطانها.[14]

فنهضوا مسرعين وأوعبوا في الخروج؛ فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب، فإنه عوض عنه رجلا كان له عليه دين، وحشدوا فيمن حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي، فلم يخرج معهم منهم أحد.[15] وقد أشار الحق تبارك وتعالى صفة خرجهم بقوله: "وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ." .الأنفال (48). [16]


موقف أمية بن خلف:


وهذا موقف عجيب يخبرك عما كان عليه القوم من العناد والكبر حيث أمية بن خلف القعود عن هذه الحرب ولكن لماذا؟

 لأن سعد بن معاذ قال له يوما: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إنهم قاتلوك!  قال: إياي؟ قال: نعم، قال: بمكة؟ قال: لا أدري؛ قال: والله ما يكذب محمد؛  ففزع لذلك أمية فزعا شديدا...فلما كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس؛ فكره أمية أن يخرج، فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، إنك متى ما يراك الناس قد تخلفت، وأنت سيد أهل الوادي، تخلفوا معك، فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذ غلبتني؛ فوالله لأشترين أجود بعير بمكة.[17] يعني: فأستعد عليه للهرب إذا خفت شيئا.[18]

فتأمل قول أمية "والله ما يكذب محمد" وهو صريح في التصديق القهري من أمية لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم! فلم الحرب إذا؟!  ولكنهم "جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا"

وقد أكرهوا على الخروج معهم من كان يميل إلى المسلمين كالعباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وطالب بن أبي طالب، وعقيل ابن أبي طَالِبٍ.[19]

عدة جيش المشركين:

عند ذلك تحرك جيش المشركين في ألف رجل.[20] ومائة فرس[21] وعدد كبير من الإبل يقودهم أبو جهل بن هشام ويحمل ألويتهم أبو عزيز بن عمير والنضر بن الحارث وطلحة بن أبي طلحة وكلهم من بني عبد الدار، ومعهم القيان والدفوف  وكانوا ينحرون في يوم عشرة من الإبل وفي يوم تسعة.[22]

وفي جانب المسلمين أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بَسْبَس بن عمرو وعدي ابن أبي الزغباء يتسقطان أخبار القافلة؛ فسارا حتى أتيا حيًا من جهينة قريبًا من ساحل البحر؛ فسألوهم عن العير وعن تجار قريش فأخبروهما بقرب وصولها؛ فرجعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – وأخبراه؛ فندب النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين للخروج وقال: "إن لنا طَلِبَة – شيئًا نطلبه- فمن كان ظهره حاضرًا؛ فليركب معنا؛ فاستأذنه بعض الصحابة: أن يجلبوا رواحلهم من بعض مناطق المدينة؛ فلم يأذن لهم"[23]

خروج النبي صلى الله عليه وسلم

ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - يوم السبت الثاني عشر من رمضان، وقال ابن هشام: خرج يوم الاثنين لثمان خلون من رمضان[24]، ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً من أصحابه[25].

واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة بن عبد المنذر واستعمله على المدينة.[26]

وفي الطريق توقف واستعرض الجيش؛ فرد من لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره، ومن هؤلاء عبد الله بن عمر والبراء بن عازب.[27]

ووزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الألوية، فأعطى اللواء العام لمصعب بن عمير، ولواء المهاجرين لعلي بن أبي طالب، ولواء الأنصار لسعد بن معاذ، وجعل على المؤخرة قيس بن أبي صَعْصَعة [28]، ولم يكن معه من الخيل سوى فرس الزبير، وفرس المقداد بن الأسود الكندي، ومن الإبل سبعون بعيراً يعتقب الرجلان والثلاثة فأكثر على البعير الواحد.[29]

ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حالهم دعا لهم فقال: "اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم"[30] .

وهذا موقف من مواقف العزة؛

عن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تؤمن بالله ورسوله؟" قال: لا، قال: "فارجع، فلن أستعين بمشرك"، قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة، قال: "فارجع، فلن أستعين بمشرك"، قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: "تؤمن بالله ورسوله؟" قال: نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فانطلق"[31]

وما زال النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه نحو بدر والمشركون كذلك في الاتجاه الآخر؛ ليجمع الله بينهم على غير موعد؛ ليقضي الله أمرا كان مفعولا وهذا ما نكمله في العدد القادم إن شاء الله

والحمد لله رب العالمين.



[1] مختصر تاريخ دمشق (2/ 186).

[2] الطبقات الكبرى (2/ 8).

[3] الفصول في السيرة (ص: 128).

[4] الاستيعاب (1/ 43).

[5] غزوة بدر الكبرى دروس وعبر (ص: 3)..

[6] سنن أبي داود (3004) وإسناده صحيح.

[7] سنن الترمذي (3046) وحسنه الألباني.

[8] زاد المعاد (3/ 62).

[9] سنن الترمذي (3171)، والنسائي (3085) وحسنه الترمذي وصححه الألباني.

[10] النص التاريخي (2).

[11] موضع بينبع عند منزل الحاج، ليس بينها وبين البلد إلا الطريق. معجم معالم الحجاز (6/110).

[12] زاد المعاد (3/ 149).

[13] السيرة للصلابي (393).

[14] السيرة النبوية للصلابي(393).

[15] زاد المعاد (3/ 154).

[16] مختصر زاد المعاد (141)، وابن هشام (2/ 186).

[17]البخاري (3632و3950).

[18] فتح الباري (7/ 284).

[19] دلائل النبوة (3/ 105).

[20] صحيح مسلم (1763).

[21] ابن هشام (2/224).

[22] دلائل النبوة (3/109)

[23] دلائل النبوة للبيهقي (3/103)، وصحيح مسلم (3/ 1509).

[24] ابن سعد (2/12) وقال ابن هشام (2/251).

[25] صحيح مسلم (1763).

[26] الفصول في السيرة (ص: 128).

[27] صحيح البخاري (3956).

[28] ابن هشام (2/251).

[29] الفصول في السيرة (129)

[30] سنن أبي داود (2747)، وحسنه الألباني في الصحيحة (1003).

[31] صحيح مسلم (1817).