دراسات شرعية. (شهر رجب بين السنة والبدعة).

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين، وبعد:

هذا تذكير بما ورد فى فضل شهر رجب الصحيح منه والضعيف .

أولا. شهر رجب من الأشهر الأربعة الحرم، التى فى قوله سبحانه وتعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ...(التوبة ٣٦).

وقد بين النبى صلى الله عليه وسلم أسماء هذه الشهور الأربعة كما بالحديث عن أبى بكرة رضى الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان (متفق عليه).

وقد أطلق عليه النبى صلى الله عليه وسلم "رجب مضر"، لأن مضر كانت تعظمه فى الجاهلية فلا تزيد فيه أو تنقص منه، وهو النسئ الذى حرمه الله تعالى فى قوله: (إنما النسئ زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما، ليوافقوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم زين لهم سوء أعمالهم والله لايهدى القوم الكافرين (التوبة ٣٧) .

ثانيا: لماذا نهى الله تعالى عن الظلم فى الأشهر الحرم ومنها رجب ؟ .

قال تعالى: (منها أربعة حرم فلاتظلموا فيهن أنفسكم) . إن الظلم حرمه الله تعالى وهو منهى عنه فى كل زمان كما بالحديث عن أبى ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث القدسى: يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (مسلم) لكن الله تعالى خص الأشهر الحرم تعظيما لها وتشريفا بأن نهى عن الظلم فيها، كما قال ابن عباس رضى الله عنهما: خص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرما وعظم حرمتهن وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم (انظر تفسير الطبرى ١١/ ٤٤٤) .

ثالثا:الصيام فى رجب: لم يثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم فى فضل صيام رجب خاصة حديث صحيح.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما صوم رجب بخصوصه فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة، لايعتمد أهل العلم على شئ منها، وليست من الضعيف الذى يروى فى الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات (مجموع الفتاوى ٢٥/ ٢٩٠ -٢٩١).

وقال ابن القيم: كل حديث فى ذكر صيام رجب وصلاة بعض الليالي فيه فهو كذب مفترى (انظر المنار المنيف ص ٩٦) وقال الحافظ ابن حجر: لم يرد فى فضل شهر رجب ولا فى صيامه ولا صيام شئ منه معين ولا فى قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة (انظر تبيين العجب ص١١).

وقد كان عمر رضى الله عنه يضرب على صيام رجب،فعن خرشة بن الحر قال: رأيت عمر يضرب أكف الناس فى رجب حتى يضعوها فى الجفان، ويقول: كلوا فإنما هو شهر كان يعظمه أهل الجاهلية (مصنف ابن أبى شيبة ح ٩٧٥٨ وصححه الألبانى فى الإرواء) وقد ذهب الجمهور إلى استحباب صيام الأشهر الحرم عموما ورجب على وجه الخصوص مستدلين بما ورد فى فضل الصيام عامة وبما ورد فى صيام الأشهر الحرم،كما بحديث الباهلى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له: صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك (أخرجه أبو داوود ح ٢٤٢٨، وابن ماجه ح ١٧٤١، والنسائى فى الكبرى ح ٢٧٥٦، وأحمد فى المسند ح ٢٠٣٢٣، والحديث فيه جهالة أبى مجيبة الباهلى، وقيل إنها امرأة واسمها مجيبة الباهلية، مال إلى ضعفه المنذري فى مختصر سنن أبى داوود ٢/ ١٢١، وضعفه الألباني والأرناؤط).

وبحديث أسامة بن زيد رضى الله عنهما: قلت يا رسول الله لم أرك تصوم شهرا من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملى وأنا صائم (أخرجه أبو داوود والنسائى وأحمد وغيرهم، وحسنه المنذرب فى مختصر سنن أبى داوود، والألبانى فى الإرواء وغيره، والأرناءوط فى تعليقه على المسند ح ٢١٧٥٣).

قال الشوكانى: ظاهر قوله فى حديث أسامة إن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان أنه يستحب صوم رجب، لأن الظاهر أن المراد أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم، كما يعظمون رمضان ورجبا به،ويحتمل أن المراد غفلتهم عن تعظيم شعبان بصومه، كما يعظمون رجبا بنحر النحائر فيه، فإنه كان يعظم بذلك عند الجاهلية وينحرون فيه العتيرة كما ثبت فى الحديث، والظاهر الأول (انظر نيل الأوطار ٤ / ٢٩٢).

وهناك من كره صيام شهر رجب كالحنابلة وغيرهم، قال ابن قدامة: ويكره إفراد رجب بالصوم،قال أحمد: وإن صامه رجل أفطر فيه يوما أو أياما بقدر ما لايصومه كله ….. وقال أحمد: من كان يصوم السنة صامه، وإلا فلا يصومه متواليا، يفطر فيه، ولايشبهه برمضان (انظر المغنى ٣/ ١٧٢) .

قلت: فإن صام فى رجب غير معتقد في أفضلية الصيام فيه، ولا معظما له كما كانوا يعظمونه فى الجاهلية ولايسرد فيه الصيام سردا، ولايستقبله كما يستقبل شهر رمضان ولايخص منه أياما لم يخصها الشرع، وإنما صام من شهر رجب صياما كان يعتاده، كصيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، أو صيام الإثنين والخميس، أو صيام يوم وإفطار يوم دون تخصيص لهذا الشهر بذلك فلا حرج والله أعلم .

رابعا:الذبح فى رجب: كانوا يذبحون شاة فى العشر الأوائل من رجب وتسمى العتيرة وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عنها كما بحديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لافرع ولا عتيرة (متفق عليه) .

لكن وردت أحاديث تدل على مشروعيتها منها حديث نبيشة قال:نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نعتر عتيرة فى الجاهلية فى رجب فما تأمرنا ؟ قال: اذبحوا لله فى أى شهر كان ……. (أبو داود وغيره، صححه الحاكم وابن المنذر، والأرناءوط فى المسند والألبانى فى صحيح أبى داود وغيره).

قال الألبانى: والفرع هو أول نتاج كان ينتج لهم كانوا يذبحونه لطواغيتهم،والعتيرة: ذبيحة فى رجب كانوا يعظمون بها شهر رجب . فإن ذبح المسلم أول نتاج -من انعامه- لله تعالى، أو ذبح فى رجب كما يذبح فى غيره من الشهور دون تخصيص لرجب على ما سواه من الأشهر، بل قد جاءت أحاديث تدل على ذلك، أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرع ؟ فقال: حق . وسئل عن العتيرة ؟ فقال: حق، وفى حديث آخر: اذبحوا لله فى أى شهر كان (انظر أداء ما وجب من بيان وضع الوضاعين فى رجب ص ٣٨، والإرواء تحت حديث ١١٨١).

وقال الحافظ: وقد ورد الأمر بالعتيرة فى أحاديث كثيرة، وصحح ابن المنذر منها حديثا، وساق البيهقى منها جملة، والجمع بين هذا وبين حديث أبى هريرة (لافرع ولاعتيرة) أن المراد بالوجوب، أى لافرع واجب ولاعتيرة واجبة (انظر تلخيص الحبير ٤/٣٦٨) .

وقال الجمهور أن ما ورد فى جواز العتيرة منسوخ بأحاديث النهى عنها،وقال القاضى عياض أن الجمهور على ذلك (انظر نيل الأوطار ٥/ ١٦٦) وإلى النسخ ذهب ابن قدامة (انظر المغنى ٩/ ٤٦٥، النووى على مسلم ١٣/ ١٣٧) وذهب الشافعى إلى استحباب العتيرة (انظر المجموع للنووى. ٨/٤٤٣) .

وقال ابن رجب: العتيرة اختلف العلماء فى حكمها فى الإسلام، فالأكثرون على أن الإسلام أبطلها …… ومنهم من قال بل هى مستحبة، منهم ابن سيرين، وحكاه الإمام أحمد عن أهل البصرة ورجحه طائفة من أهل الحديث المتأخرين، ونقل حنبل عن أحمد نحوه (انظر لطائف المعارف ص١١٧) .

قلت: والأولى عدم الذبح فى رجب وتخصيصه بذلك، لأمرين أن ذلك كان من فعل الجاهلية، ولترجيح قول الجمهور بالنسخ، والله أعلم .

خامسا:العمرة فى رجب: لم يصح أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر فى رجب أو ذكر حديثا فى فضل العمرة فى رجب. فعن أنس رضى الله عنه قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن فى ذى القعدة إلا التى كامت مع حجتة (متفق عليه).

وما ورد عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب:عن مجاهد قال:دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة رضى الله عنها، وإذا ناس يصلون فى المسجد صلاة الضحى……. ثم قال له: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: أربعا إحداهن فى رجب، فكرهنا أن نرد عليه . قال: وسمعنا استنان (السواك) عائشة أم المؤمنين فى الحجرة، فقال عروة: يا أماه يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن ؟ قالت: ما يقول ؟ قال: يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات إحداهن فى رجب . قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهد وما اعتمر فى رجب قط (متفق عليه) .

قال النووى: وأما قول ابن عمر (إن إحداهن فى رجب): فقد أنكرته عائشة وسكت ابن عمر حين أنكرته . قال العلماء:هذا يدل على أنه اشتبه عليه أو نسى أو شك، ولهذا سكت عن الإنكار على عائشة ومراجعتها بالكلام، فهذا هو الصواب الذى يتعين المصير إليه (شرح النووى على مسلم ٨/٢٣٥) .

وقد نقل عن بعض السلف أنهم كانوا يستحبون العمرة فى رجب، عن سعيد بن المسيب قال: كانت عائشة رضى الله عنها تعتمر فى آخر ذى الحجة وتعتمر من المدينة فى رجب (مصنف ابن أبي شيبة ح١٣٣٢٩، وذكر آثارا أخرى فيها استحباب العمرة فى رجب عن بعض السلف . (انظر مصنف ابن أبى شيبة: في عمرة رجب من كان يحبها ويعتمر فيها). قلت: ولم يثبت فى فضل العمرة فى رجب نص عن النبى صلى الله عليه وسلم، ومن تيسر له الإعتمار فى رجب دون اعتقاد فضل معين له، بل لأن ذلك تيسر له، جاز والله أعلم .

سادسا:صلاة الرغائب: وهى صلاة تقام فى أول ليلة من رجب، وهى بدعة باتفاق العلماء ولا أصل لها . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: صلاة الرغائب لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه،وهي بدعة باتفاق ائمة الدين كمالك والشافعى وأحمد وأبى حنيفة والثورى والأوزاعى والليث وغيرهم،والحديث المروى فيها كذب بإجماع أهل المعرفة بالحديث (مجموع الفتاوى ٢٣/١٣٤،المنار المنيف ص٩٥) .

سابعا:التصدق عن الموتى وزيارتهم فى رجب: لم يثبت فى ذلك شئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

 ثامنا أدعية خاصة لشهر رجب: كلها بدع ولا أصل لها .

تاسعا: الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج: لم يصح فى الاحتفال به أو صيامه أوقيامه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ورد فى ذلك مكذوب مثل حديث: من صام يوم السابع والعشرين من رجب كتب الله له ثواب ستين شهرا . أو حديث: وقيام ليلها فضيل وصيام نهارها مستحب لكل مسلم ومسلمة . وقد اختلف العلماء فى وقت الإسراء والمعراج على أقوال كثيرة . فقيل كان فى السابع والعشرين من رجب، وقيل فى شهر رمضان، وقيل فى شهر شوال، وقيل فى السابع والعشرين من ربيع الأول،والسابع والعشرين من ربيع الآخر،إلى غير ذلك، ولو صح أنها كانت فى ليلة بعينها فليس هذا مبررا للاحتفال بها لأن ذلك لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف، والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين