باب السنة: سبيل الفائزين وردّ الطاعنين (الحلقة الأولى)

د. مرزوق بن محمد مرزوق

الحمد لله المتفضل علينا بالعبودية، والمتكرم علينا بأسباب الرحمة والسعادة الأبدية، والصلاة والسلام على خير البرية وآله وصحبه ومن كان له وليًّا، وبعد:

فإنه قد أطل علينا شهر من أشهر النفحات؛ شعبان من أيام الله المباركات، ومن بركته أنه بشريات بقدوم رمضان شهر الرحمات والبركات، والله نسأل أن يبلّغنا الشهر الفضيل سيد الشهور في الدهور، وقد تفضَّل الله علينا بحديث يجمع بين المعاني والمباني من توضيح لسبيل المؤمنين إلى مرضاة رب العالمين، فضلاً عن رد الطاعنين والانتصار للشرع الحكيم.

الحديث:

عن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- "أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَرَأَيْت إذَا صَلَّيْت الْمَكْتُوبَاتِ، وَصُمْت رَمَضَانَ، وَأَحْلَلْت الْحَلَالَ، وَحَرَّمْت الْحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا؛ أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ".

التخريج: صحيح مسلم، كتاب الإيمان ، باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة رقم (44).

مناسبة  الحديث ومنزلته:

 إن حديثنا الذي تفضل الله به علينا يعد من كنوز السنة كما قال عنه أسلافنا: "فهو جامع للإسلام أصولاً وفروعًا"، (كما قاله ابن حجر الهيتمي في فتح المبين 162)، (وبنحوه قال القاضي عياض في إكمال إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم، للأُبِّيِّ (1/ 142 ح 15(. وتفصل في (الجواهر اللؤلؤية شرح الأربعين النووية (213( فقال رحمه الله: "هذا الحديث عظيم الموقع، وعليه مدار الإسلام لجمعه له؛ وذلك لأن الأفعال إما قلبية أو بدنية، وكل منهما إما مأذون فيه وهو الحلال، أو ممنوع منه وهو الحرام، فإذا أحل الشخص الحلال وحرم الحرام؛ فقد أتى بجميع وظائف الدين".

إذا أتى الإنسان بجميع وظائف الدين فقد حقق المراد من:

1- التربية الإيمانية ونحن في استقبال هذه المواسم الربانية.

2- وإذا حقق هذه التربية الإيمانية فهو أبلغ رد عملي يترجى معه معية رب العالمين على هؤلاء المتجرئين على الدين.

3- وكذلك موعظة هؤلاء المتجرئين، وإعلامهم أن نجاتهم لا تكون إلا بتحليلهم الحلال وتحريمهم الحرام، وليس بهذه العقيرة الباطلة التي يرفعون ومرباد السواد القلبي الذي يظهرون، وهو مطلب شرعي في دعوتنا ومنهجنا، فالله نسأل الهداية للجميع.

السائل في الحديث:

السائل في الحديث هو النعمان بن قوقل بن أصرم، شهد بدرًا واستشهد بأُحُد، أخرج البغوي أن النعمان قال: أقسمت عليك يا رب ألا تغيب الشمس حتى أطأ بعرجتي في خضر الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيته يطأ فيها وما به من عرج") .الإصابة في معرفة الصحابة 3/ 564 رقم 8755).

المعنى العام:

اللهُ تَعالَى تفضَّل ففرض على عباده فُروضًا، وتَفضَّلَ فرتَّب على الفروض برحمته وعودًا، ومن هذا ما كان في حديثنا أنَّ النُّعمانَ بنَ قَوقلٍ رَضيَ اللهُ عنه جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فسألَ: هل إذا صلَّى ما فرض الله من صلاة وما أوجب الله من صيام، وأحل الحلال وحرم الحرام اعتقادًا وعملاً، ولم يزد على ذلك من النوافل، «شيئًا»، فهل هذا ينجيه من النار ويُدخِلُه الجَنَّةَ؟ فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «نَعَمْ»، أي: إنَّك لو فَعلتَ هذا تَدخُلُ الجنَّةَ، فالله أكبر على ذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود.

ومما يستفاد من الحديث:

1- إن أول فائدة تصل الفوائد بما سبق من معان فرائد هي حرص الصحابة على الجنة، وما يقرب إليها من عمل:

وكيف لا وهم خير القرون بشهادة رسولنا المعصوم، وهنا يسيطر على العقل سؤال هو الشاهد من الفائدة هو: وهل يكتفي صحابي فضلاً عن كونه النعمان المجاهد الأبي هل يكتفي من الأعمال بالقليل ويزهد مثله في الكثير من السنة ويترك الفضل وهو المبشر بالجنة؟

فالجواب: لا وألف فوقها، ثم هل يتصور من مسلم حريص على الخير فضلاً عن صحابي جليل أن يُعرِض عن السنن بالكلية، ثم ينتظر النصرة من مولاه، وما نصر هو سنة حبيبه ومصطفاه؟!

وإنما توجيه الحديث من وجوه: أن الله تفضل علينا بذكر القليل من الأعمال رحمة في التشريع ومراعاة الأحوال هذا أولاً، وكذلك فإن المعصوم عندما أتى بالإجمال في التزام العبودية باعتقاد الحلال والحرام والعمل به فاكتفى للاعتقاد من صدق حديثه باللوامع، وللعمل من كلام المعصوم بالجوامع، أقول هذا لنفسي وإخواني ممن أكلهم نمط الحياة السريع فأكسبهم تسارعًا كنمط الحياة الذي نحياه، فاكتفوا من الإسلام بالفرائض، وظنوا أنهم بما اكتفوا حازوا النجاة؛ فالسُّنة السنة يا عباد الله، لقد بالغ أسلافنا في فضل السنة حتى قال القرطبي في المفهم: قال علماؤنا: لو أن أهل بلدة تواطؤوا على ترك سنة لقُوتِلُوا عليها حتى يَرْجعوا، ولقد كان صدر الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم يثابرون على فعل السنن والفضائل مثابرتهم على الفرائض، ولم يكونوا يُفرِّقون بينهما في اغتنام ثوابها.)المفهم شرح مسلم، للقرطبي 1/166 ح11).

2- أن الاعتقاد والمنع والإباحة لا يكون إلا لله؛ فلا حلال إلا ما أحلَّ الله، ولا حرام إلا ما حرم الله: وتلكم هي ثاني الفوائد، وأهمهما  ظاهرة تطل برأسها وتعانق قلوب المؤمنين بقلبها، وهذا هو معنى العبودية، وللعبودية قانون لطالما نقلناه عن أسيادنا العلماء وأخرجناه بألسنة أسلافنا البلغاء يقول منطوقه: إن العبد لا يُحرّك ساكنًا ولا يُسكّن متحركًا إلا بإذن مولاه؛ أي إلا وهو مأذون له فيه من الشرع، لذا رتب عليها رب العزة هذا الوعد الكريم "الجنة".

هذا وإن من كمال تحرُّر المرء أن ينال شرف العبودية، بالاستجابة لرب البرية فلا حلال إلا ما أحل، ولا حرام إلا ما حرم، ولا يكون إيمانه إلا بذلك كما قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65]، إنَّ شرف الاسم بشرف المسمى والمنتسب إليه؛ فأي شرف أشار إليه الموفق الذي قال:

ومما زادني شرفًا وتيهًا *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي  *** وأن صيَّرت أحمد لي نبيا

فيا أيها الموفق الحبيب: لا يُغرّنك حقد حاقد، ولا حسد حاسد، ولا تدبير عدو، ولا تحالف الشياطين؛ فإن دينك محفوظ من رب العالمين، ولا عليك إلا أن تضرب بسهمك وتتمسك بموطن قدمك في قافلة المتسننين الناجين، بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فكن رابط الجأش ثابت الأقدام.

هذا ولما كان المراد من ذِكْر حديثنا الشريف هو الهدفين السالف ذكرهما، وأعني منهج المجلة العلمي، فضلاً عن معالجة الواقع العملي للقيام بدورها المجتمعي، ولما أحاط بنا من حملة شرسة اجتمعت فيها كل جيوش الشر على دين الحق يرمونه عن قوس واحدة؛ لكنهم أحاطوا به من جوانب شتى فتارة يضربونه في أزهره الشريف المؤسسة الرسمية ليست في مصر، بل في العالم كله، وتارة يضربونه في علمائه من وقتنا الذي نعيشه ووصولاً إلى أصوله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إنهم تكلموا في الصحابة والتابعين وفي السلف والعلماء العاملين والأئمة المجتهدين، ثم دخلوا على النصوص الثوابت من العقائد والفرائض، ولم يخطر ببالنا يومًا أن يتكلموا في حادثة فُرِضَتْ فيها الصلاة على المسلمين حادثة المعراج، صاحبها تكلم في الصحابة مِن قبل وتركوه، ثم تكلم عن الحجاب والعفة وما تعرضوا له ولا منعوه، ثم سخر من صريح القرآن وما سجنوه، ثم تعرض لأعراض نسائنا في صعيد مصر الشريف وما أهانوه، ثم ها هو يتكلم في المعراج وما فرض فيه وننتظر قضاء الله فيه.

 يا أحبابي! القضية ليست في رجل لم يتعلم ويظن خلاف ذلك فوزنه في حياة الناس ليس بشيء كما هو مجمع عليه، لكن القضية أظنها أعمق من هذا؛ إنها أجندات خارجية داعشية لأصحاب الأفكار الهدامة المرضية الذين لا يريدون لنا استقرارًا ولا لبلادنا عمارًا؛ فأي فتنة يحدثها هؤلاء عندما يطعنون للناس في نبيهم ودينهم وعقائدهم وثوابتهم هل يريدون إشعال فتن طائفية وخلخلة مجتمعية لوطن محفوظ بإذن الله؟! أم يستعجلون عقابًا إلهيًّا على شيوخ ونساء وأطفال يدينون بدين الفطرة؟ أو يريدون قطع الصلة بيننا وبين نبينا وأسلافنا وصالحي آبائنا، فنكون كالريشة في مهب الريح لا أصل لنا ولا جذور.

 يا سادة! إن الله عز وجل لما خلقنا، وأرسل رُسُله لنا لم يتركنا حتى رتَّب لنا حياتنا وآخرتنا، فكان من ذلك التدبير الهدي الذي تركه لنا نبينا؛ لذلك فإنني لو سألت نفسي سؤالاً يتكرر عن علاج لهذه الحملات ومواجهة لتلكم العداوات؟ فإنني أقول: إنه كثير وكثير جدًّا والحمد لله ومنه ما في هذا الحديث، واختصاره هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه  من (إحلال الحلال وتحريم الحرام)، ثم إنني بعد أحدث نفسي  شفيقًا مذكرًا: كيف يأمن على نفسه من اعتقد تحليل ما أجمع على تحريمه، أو تحريم ما أجمع على تحليله؟! والله تعالى يقول: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ).

الوجوه المتعددة والمراتب المتفاوتة لمنكري التشريع والسنة:

وقد ضل في هذا الباب فئات تختلف أحكامهم في الشرع باختلاف الدرجات -وإن كنا لسنا بصدد إصدار أحكام، إنما نذكرهم إشارة للبيان-، والله نسأل لنا ولكم الثبات، ولمن ضل عن الحق الهداية والرشاد؛ فمنهم الملاحدة، ومنهم غلاة التكفير والتجريح والتفجير، ومنهم المبتدعة المفرطة، ومنهم عباد الهوى الزنادقة؛ بعضهم يُحرّمون ويُحلّلون من تلقاء أنفسهم ليوافق دينهم أهواءهم، كما قال الله في حق الكفار الذين كانوا يُغيّرون تحريم الشهور:  (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ)، وفئة غلبتهم شقوتهم فقادهم غلوهم إلى مخالفتهم؛ فحرّموا وحلّلوا بحسب ما رأوا لا بحسب ما أملى عليهم النص الشريف، فكان منهم المُكفّرون والمفجّرون والمجرّحون والمنكرون، ثم فئات أخرى متفرعة على تلكم الفئات ممن وجد في صدره حرج من سنة خير البريات؛ فلهؤلاء ونفسي أقول ما قاله الموفق: حافظ بن أحمد الحكميّ -رحمه الله- داعيًا لاتِّباع السُّنة وتعظيم الأحكام الشرعية، وترك الشك المناقض للإيمان، فقال رحمه الله:

حَكِّمْ نَبِيَّكَ وانْقَدْ وارْضَ سُنَّتَهُ *** مَعَ اليَقينِ وحَوْلَ الشَّكِّ لا تَحُم

فمَا لِذِي ريبَةٍ في نفسِهِ حَرَجٌ مِمَّا *** قَضَى قطُّ في الأَيْمانِ مِنْ قَسَمِ

(فَلا وَرَبِّكَ) أقْوَى زاجِرًا لأُوْلِي الْألْبابِ *** والْمُلْحِدُ الزِّنْدِيقُ في صَمَمِ

وللحديث صلة إن شاء الله، وفي هذا القدر من العبد الكفاية، والله حسبنا، ومنه الهداية.