فاتحة الكتاب وفاتحة العام

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على خير خلقه المبعوث هداية للناس جميعًا، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه أما بعد …

ونحن نفتتح بمجلة التوحيد - صانها الله ونفع بها - عامها الخامس والعشرين بعد أن قضت هذه الأعوام في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وهي لسان جماعة أنصار السنة المحمدية التي تأسست في عام 1345 للهجرة الموافق 1926 م.

وقد كانت مجلة الجماعة قبل التوحيد تسمى ( الهدي النبوي ) استمرت في الصدور سبعة وثلاثين عامًا تدعو إلى الله سبحانه في أجواء ملأتها البدع والخرافات، وعم فيها الشرك و الظلمات  والجهل الشديد. فبصَّر الله بها أعينًا، وفتح بها آذانًا، حتى كانت ترى أقلامًا تكتب إليها من السودان، ومراسلين ومحررين من الصومال، وآخرين من المغرب والجزائر، وقراءً من الأردن وسوريا والعراق، ومؤازرين في أواسط أفريقيا من أرتريا وغيرها، فضلاً عن المحبين في دول الخليج من السعودية والإمارات والكويت وقطر والبحرين وعمان، كل ذلك في وقت عزَّ فيه نقلة الحق، وقلَّ فيه أهل التوحيد.

أتذكر ذلك وأنا أكتب كلمات أفتتح بها عدد المحرم لعام 1417 من أعوام الهجرة النبوية، وظهور الرسالة المحمدية - نفعنا الله بها في الدنيا والآخرة.

وأتذكر فاتحة الكتاب بافتتاحية المجلة، تلك الفاتحة التي نتلوها عشرات المرات في كل يوم، وفي كل ليلة، فنجد فيها ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) [ الفاتحة : 6، 7]، وأرى الفاتحة سورة جامعة : جمع نصفها الأول أفضل الثناء، وجمع نصفها الآخر أشمل الدعاء. فجماع حاجات العبد هو الهداية التي لا تكون إلا بالله وحده.

والصراط المستقيم الذي نسأل الهداية إليه هو القرآن الكريم بدليل الآيات التي بعدها مباشرة : ( الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) [ البقرة : 1، 2].

وكل معنى يذكره المفسرون غير ذلك راجع إلى القرآن الكريم من قبيل الترادف أو من قبيل ضرب المثال.

أما ( الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) [ الفاتحة : 7] فهم الذين ذكرهم رب العزة سبحانه في قوله تعالى : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) [ النساء : 69]، والمغضوب عليهم هم اليهود، وكل من سار سيرتهم في معرفة الحق مع العمد إلى مخالفته.

والضالون هم النصارى ؛ وكل من تعبد على غير الشرع، أي : بالأهواء والبدع.

أتذكر المعاني الجليلة العظيمة في هذا الدعاء الجامع من سورة الفاتحة، وأرى فيه الإرشاد والتحذير : أما الإرشاد : فهو عندما نتذكر أن المنهج القويم هو الصراط المستقيم الواضح في القرآن الكريم، وأن النبي الأمين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قد جاء ليبين الكتاب فكان خُلُقه القرآن.

وأن السائرين على ذلك قد أنعم الله عليهم بنعيم يمتدُّ فيشملهم في الآخرة بجنة عرضها السموات والأرض، فنرجو أن نكون لهم رفاقًا في ذلك النعيم، ويدفعنا ذلك الرجاء إلى صالح العمل. فنستعين بالله أن يجعلنا من العاملين المخلصين المتقين.

وأما التحذير : فهو أن نتذكر المتنكبين عن ذلك الصراط إما أن يكونوا تركوه عملاً مع أنهم عرفوه علمًا.

وإما تركوه علمًا فصاروا من أهل العمى والضلال.

ثم تُذَكِّر الآية الكريمة كل مسلم أن ينظر إلى نفسه عضوًا في رفقة عظيمة قد مضى منهم الأفضل قدرًا والأكثر عددًا، فأين النبيون، ومن بقي بعد من الصديقين ؟ وكم يصطفي الله بعد من شهداء ويرضى عن صالحين ( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) [ النساء : 69]، ومن عمل لينال تلك الرفقة، وصدق في عمله فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

وهنا أقف لأتذكر تلك الكوكبة التي مضت قريبًا في الدعوة إلى الله سبحانه من خلال الجماعة ومجلتها، فأتذكر الشيوخ الأجلاء الذين قضوا نحبهم في الدعوة إلى الله سبحانه، وقد أفضوا إلى ربهم وبقيت معلومة لنا أسماؤهم، ففي العدد الأول للمجلة منذ أكثر من واحد وستين عامًا يكتب أسماء العلماء : الشيخ محمد عبد الحليم الرمالي، والشيخ محمد حامد الفقي، والشيخ أحمد شاكر، والشيخ محمد عبد السلام القباني، والشيخ عبد الوهاب العيسوي والشيخ محمد محمد مخمير والشيخ عبد الرزاق عفيفي والشيخ إبراهيم عبد الباقي والشيخ محمد حمدي والشيخ عبد الحميد عبد السلام.

ثم نتذكر رؤساء الجماعة الذين مضوا بعد مؤسسها الشيخ محمد حامد الفقي وهم : الشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الرحمن الوكيل، والشيخ محمد عبد المجيد الشافعي، والشيخ محمد علي عبد الرحيم رحمهم الله جميعًا.

وقد مرَّ في تاريخ الجماعة علماء أجلاء كثيرون لا يسعني أن أجمع أسماءهم كان لهم الأثر البارز، والجهد الواضح في الدعوة، ومضى من جند الدعوة من إذا غابت عنا اليوم أسماؤهم فالله يعلمهم، فندعو الله لهم بالرحمة والقبول، وأن يتجاوز عن سيئاتهم، وأن يجعلنا وإياهم مع هذه الرفقة الحسنة التي قال عنها سبحانه : ( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) [ النساء : 69].

ثم من كلمة لمن بقي من الأحياء : أسأل الله أن يجمعنا في ظل الدعوة المباركة وفي هذا الدعاء الجامع : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) [ الفاتحة : 6] متحابين متآخين على هذا الصراط المستقيم نحذر الزلل ونحرص على الاستقامة، والله الهادي إلى أقوم السبل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.