عيد الأضحى
فضائلُ وآدابٌ وأحكام
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1] والصلاة والسلام على رسوله المصطفى ونبيه المجتبى وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن في عيد الأضحى من الخصائص والأحكام والفضائل والآداب ما يعظم به شأنه ويرتفع به قدره، وسوف يختص هذا المقال بذكر أمرين:
الأول: فضائل أيام عيد الأضحى.
الثاني: أهم الآداب والأحكام التي تشرع فيه.
فأقول وبالله التوفيق:
أولاً: من فضائل أيام عيد الأضحى:
إن الله تعالى اصطفى من الأزمان أوقاتًا ففضلها وجعل فيها من الخصائص ما تعظم به ومن هذه الأيام يوم النحر، فهو أحب وأعظم الأيام عند الله تعالى، فعن عبد الله بن قرط - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم الأيام عند الله عز وجل يوم النحر، ثم يوم القر» [أخرجه أبو داود (1765)].
ويوم النحر، هو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو تاج أيام العشر وهو أعظمها، وأحبها إلى الله تعالى، وأيام العشر الأول من ذي الحجة هي خير أيام الدنيا وأفضلها، كما جاء في حديث ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر.
قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟
قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء» [أخرجه البخاري (969)]
ويوم النحر هو أول أيام عيد الأضحى عند من لم يعد يوم عرفة من أيام العيد وهو قول الجمهور، ويوم القَرِّ: هو اليوم الذي يلي يوم النحر وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، وسمي يوم القر: لأن الناس يقرون فيه بمنى بعد أن فرغوا من طواف الإفاضة والنحر واستراحوا، وهو أول أيام التشريق.
وأيام التشريق ثلاثة، وهي: اليوم الحادي عشر وقد سبق أنه يسمى: يوم القر، واليوم الثاني عشر، ويسمى: يوم النَّفْر الأول، واليوم الثالث عشر، ويسمى: يوم النفر الثاني، وسميت هكذا: لأن الناس ينفرون فيهما من منى، وقد جاء فيها قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]
ويوم النحر، وأيام التشريق هي أيام العيد، ويرتبط بها أحكام وآداب، فعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يوم عرفة ويوم النحر، وأيام التشريق: عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب».
[أخرجه أبو داود (2419)، والترمذي (773) والنسائي (3004)، وقال الترمذي: حسن صحيح]
فقد اجتمع في يوم النحر، وأيام عيد الأضحى من الفضائل ما لم يجتمع في غيرها من أيام الدهر.
ثانيًا: أهم الآداب والأحكام التي تشرع في عيد الأضحى:
1 ـ التكبير المطلق والمقيد فيه:
والتكبير المقيد: مستحب بإجماع، وهو الذي يكون في أدبار الصلوات الخمس بعد الاستغفار خاصةً إذا أديت في جماعة، كما يشترط أكثر الفقهاء، وليس فيه مشروعيته حديث صحيح مرفوع، لكن نقل فيه إجماع الصحابة، قال النووي في المجموع (5 /22): «وأما التكبير المقيد: فيشرع في عيد الأضحى بلا خلاف لإجماع الأمة»، قال ابن رجب في فتح الباري (9 /22): «فاتفق العلماء على أنه يشرع التكبير عقيب الصلوات في هذه الأيام في الجملة، وليس فيهِ حديث مرفوع صحيح، بل إنما فيهِ آثار عن الصحابة ومن بعدهم، وعمل المسلمين عليهِ.
وهذا مما يدل على أن بعض ما أجمعت الأمة عليهِ لم ينقل إلينا فيهِ نص صريح عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل يكتفى بالعمل به.»
وهل يكبر في أدبار صلاة النوافل؟
الجمهور على أنه لا يشرع التكبير في دبر صلاة النافلة، وذهب الشافعي إلى استحبابه، قال القاضي عياض في المعلم (3 /301): «اختلفوا في التكبير دبر النوافل، فلم ير ذلك مالكٌ في المشهور عنه، والثوري، وأحمد، وإسحاق.
وقال الشافعي: يكبر»
وقت التكبير المقيد: يبدأ التكبير المقيد عند الجمهور من صلاة صبح يوم عرفة، وينتهي بصلاة عصر آخر أيام التشريق، بل نقل الإمام أحمد إجماع الصحابة على ذلك، قال ابن رجب الحنبلي في فتح الباري (9 /22): «وقد حكى الإمام أحمد هذا القول إجماعًا من الصحابة، حكاه عن: عمر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عباس.»
والتكبير المطلق: هو غير المقيد بأدبار الصلوات فيشرع في ليلتي العيدين، وفي كل العشر من ذي الحجة، وعند الخروج لصلاة العيد حتى يأتي الإمام، وهو من الشعار الظاهر في هذه الأيام، قال البخاري في صحيحه: «كان ابن عمر، وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما»
قال ابن تيمية في التكبير المطلق ـ مجموع الفتاوى، جمع ابن القاسم ـ (24 /221): «أما التكبير فإنه مشروع في الأضحى بالاتفاق، وفي عيد الفطر عند مالك، والشافعي، وأحمد.»
صيغة التكبير: صيغ التكبير الواردة عن الصحابة ثلاثة:
1 ـ الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
2 ـ الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
3 ـ الله أكبر الله أكبر كبيرًا.
قال الحافظ في الفتح (2 /462): «وأما صيغة التكبير: فأصح ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان قال: كبروا الله: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا.
ونقل عن سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجه جعفر الفريابي في كتاب العيدين من طريق يزيد بن أبي زياد عنهم وهو قول الشافعي وزاد ولله الحمد.
وقيل: يكبر ثلاثًا، ويزيد لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلخ.
وقيل: يكبر ثنتين بعدهما لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد جاء ذلك عن عمر، وعن ابن مسعود نحوه، وبه قال أحمد وإسحاق.
وقد أحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها»
قال ابن تيمية ـ مجموع الفتاوى، جمع ابن القاسم ـ (24 /220): «وصفة التكبير المنقول عن أكثر الصحابة أن يقول: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.. وإن قال الله أكبر ثلاثًا جاز»
وصفته: أن يكبر تكبيرًا فرديًا، وهل يشرع التكبير الجماعي؟
اختلف فيه أهل العلم فالمالكية على بدعيته في الطريق واستحسنوه في ظاهر المذهب في المصلى، والشافعية على جوازه، قال الشافعي في الأم (1 /264): «فإذا رأوا هلال شوال أحببت أن يكبر الناس جماعة، وفرادى في المسجد والأسواق، والطرق، والمنازل، ومسافرين، ومقيمين في كل حال، وأين كانوا، وأن يظهروا التكبير، ولا يزالون يكبرون حتى يغدوا إلى المصلى.»
قال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير (1 /399): «والموضوع أن التكبير في الطريق: بدعة.
وأما التكبير جماعة وهم جالسون في المصلى فهذا هو الذي استحسن»
فالأمر في ذلك واسع فلا يشدد فيه، وفعل الصحابة محتمل للأمرين.
2 ـ صلاة العيد، وهي شعار ظاهر من شعائر الإسلام بالإجماع، وهو من آكد العبادات المشروعات في العيد، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر النساء حتى الحيض أن يخرجن إلى المصلى فيشهدن الصلاة، ودعوة المسلمين، فعن أم عطية، قالت: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق، والحيض، وذوات الخدور.
فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين.
قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟
قال: لتلبسها أختها من جلبابها» [أخرجه البخاري (324)، ومسلم (890)]
ويشرع لمن فاتته صلاة العيد مع الإمام أن يقضيها عند جمهور أهل العلم، وكذا إذا لم تصل بالمصر، ويقضيها بصفتها؛ لفعل أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: «أنه كان يكون في منزله بالزاوية، فإذا لم يشهد العيد بالبصرة جمع أهله وولده ومواليه، ثم يأمر مولاه عبد الله بن أبي عتبة فصلى بهم ركعتين» [أخرجه عبد الرزاق في المصنف (5855)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (7289)، والسنن الكبرى، للبيهقي (6237)]
3 ـ يستحب فيه الغسل، والتطيب، ولبس أجمل ما يجد من الثياب: قال ابن عبد البر في الاستذكار (2 /47): «في هذا الحديث الندب لكل من وجد سعة أن يتخذ الثياب الحسان للأعياد والجمعات ويتجمل بها
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ويعتم، ويتطيب، ويلبس أحسن ما يجد في الجمعة والعيد، وفيه الأسوة الحسنة، وكان يأمر بالطيب، والسواك، والدهن.»
4 ـ الأضحية ببهيمة الأنعام، وهي من سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي لم يتركها منذ هاجر، وقد كان يعلمهم فقه الأضحية في خطبته، ويحث عليها ويبين أنها من سنن المرسلين، وأنها من النسك الذي يتقرب به، فعن البراء، قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع، فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل أن يصلي، فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء.
فقام خالي أبو بردة بن نيار، فقال: يا رسول الله، أنا ذبحت قبل أن أصلي وعندي جذعة خير من مسنة قال: اجعلها مكانها، أو قال: اذبحها، ولن تجزي جذعة عن أحد بعدك.» [أخرجه البخاري (968)، ومسلم (1961)].
5 ـ التوسعة على الأهل والجيران؛ للحديث السابق فإن في بعض روايته عند مسلم (1962): «فقام رجل، فقال: يا رسول الله، هذا يوم يشتهى فيه اللحم، وذكر هنة من جيرانه» ففيه أنه استعجل الذبح ليكون أول من أطعم أهله وجيرانه.
6 ـ التهنئة بالعيد: يشرع للمسلمين تهنئة بعضهم بالعيد وإظهار الفرح بذلك، قال ابن تيمية ـ مجموع الفتاوى، جمع ابن القاسم ـ (24 /253): «أما التهنئة يوم العيد يقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد صلاة العيد: تقبل الله منا ومنكم وأحاله الله عليك ونحو ذلك فهذا قد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره.»
7 ـ مما يشرع في العيد صلة الأرحام، واللهو المباح، لحديث عائشة، قالت: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان، تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا.
وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما قال: تشتهين تنظرين؟
فقلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة حتى إذا مللت، قال: حسبك؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي» [أخرجه البخاري (949)، ومسلم (892)]
هذا ما يسره الله في هذا المحل، تقبل الله منكم، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى.