جاءت أحاديث تلحق القنوت بالوتر مطلقًا ومقيدًا، لذا أفردنا هذا الحديث حول القنوت تتمة للحديث عن الوتر في حديث أوصاني خليلي صلي الله عليه وسلم بثلاث.....
* وقد جاءت الأحاديث في شأن القنوت منها ما تعلق بالوتر كحديث الحسن بن علي وحديث علي رضي الله عنهما، وقد أخرج هذه الأحاديث أبو داود والنسائي والترمذي.
فأما حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله صلي الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت).
وأما حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).
ومن الأحاديث ما خص القنوت في الوتر برمضان بل بالنصف الأخير منه، كحديث أبي داود عن الحسن بن علي رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب جمع الناس علي أبي بن كعب فكان يصلي لهم عشرين ليلة ولا يقنت بهم إلا في النصف الباقي.
* ومن الأحاديث ما ذكر القنوت عند النوازل في صلاة الصبح، كحديث البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: بعث النبي صلي الله عليه وسلم سبعين رجلاً لحاجة - يقال لهم: القراء - فعرض لهم حيان بن سليم: رِعْل وذكوان، عند بئر يقال لها: بئر معونة فقال القوم: والله ما إياكم أردنا إنما نحن مجتازون في حاجة النبي صلي الله عليه وسلم.
فقتلوهم، فدعا النبي صلي الله عليه وسلم شهرًا في صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت.
* ومن الأحاديث ما ذكر القنوت عند النوازل في جميع الصلوات.
كحديث أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قنت في صلاة العتمة شهرًا يقول في قنوته: (الله أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك على مضر، الله اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) قال أبو هريرة: وأصبح ذات يوم فلم يدع لهم فذكرت ذلك له فقال: (أما تراهم قد قدموا). (متفق عليه).
وحديث ابن عباس قنت رسول الله صلي الله عليه وسلم شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح (رواه أحمد وأبو داود).
* ومن الأحاديث ما ذكرت القنوت بعد الرفع من الركوع كحديث أنس.
قنت النبي صلي الله عليه وسلم شهرًا بعد الركوع في صلاة الصبح يدعو على أحياء من العرب.
* ومن الأحاديث ما ذكرت القنوت قبل الركوع، قال عبد العزيز بن صهيب: فسأل رجل أنسًا عن القنوت أبعد الركوع أم عند الفراغ من القراءة ؟ قال: لا، بل عند فراغ القراءة.
وجاء ذلك عن عثمان أنه فعله.
* ومن أحاديث القنوت حديث أنس: ما زال رسول الله صلي الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، وهو ضعيف، وقد أخرجه أحمد.
* ومن الأحاديث في القنوت (أفضل الصلاة طول القنوت).
* ومن الأحاديث التي تمنع القنوت: ما أخرجه الترمذي والنسائي عن أبي مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قلت: لأبي: يا أبت قد صليتَ خلف رسول الله صلي الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب ههنا بالكوفة خمس سنين ما كانوا يقنتون ؟ قال: أي بني محدث، وفي رواية: أي بني بدعة.
وفي الموطأ عن نافع مولى ابن عمر أن ابن عمر كان لا يقنت في شيء من الصلاة.
* أقوال الأئمة في القنوت:
* قنوت الوتر:
عن محمد بن نصر أن الشافعي قال: أحب أن يقنتوا في الوتر في النصف الآخر أي من رمضان ولا يقنت في سائر السنة ولا في رمضان إلا في النصف الآخر - وحكي عن أبي داود قلت لأحمد: القنوت في الوتر السنة كلها ؟ قال: إن شاء. قلت: فما تختار ؟ قال: أما أنا فلا أقنت إلا في النصف الباقي إلا أن أصلي خلف إمام يقنت فأقنت معه. قلت: إذا كان يقنت للنصف الآخر متى يبتدىء ؟ قال: إذا مضى خمس عشرة ليلة، سادس عشرة.
وقال أيضًا (أي: محمد بن نصر): سئل مالك عن القنوت في الوتر في غير رمضان فقال: ما أقنت أنا في الوتر في رمضان ولا في غيره، وسئل عن الرجل يقوم لأهله في رمضان أيقنت بهم في النصف الباقي من الشهر ؟ فقال: لم أسمع أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ولا أحدًا من أولئك قنت.
وما هو من الأمر القديم. وما أفعله أنا في رمضان، ولا أعرف القنوت قديمًا.
وفي رواية: لا يقنت في الوتر عندنا.
قال الشيخ سليمان بن سمحان:
ولا تقنتن في كل وترك يا فتى
فتجعله كالواجب المتأكد
وكن قانتًا حينًا وحينًا فتاركا
لذلك تسعد بالدليل وتهتدي
ففعل وترك سنة وكلاهما
أنت عن رسول الله إن كنت مقتد
* قنوت الصبح:
قال صاحب فقه السنة: الخلفاء كانوا لا يقنتون في صلاة الفجر، وهو مذهب الحنفية والحنابلة وابن المبارك والثوري وإسحاق، وأما مذهب الشافعية فهو القنوت في صلاة الصبح بعد الركوع من الركعة الثانية، لما رواه الجماعة إلا الترمذي عن ابن سيرين أن أنس بن مالك سئل هل قنت النبي صلي الله عليه وسلم في الصبح ؟ فقال: نعم فقيل له: قبل الركوع أو بعده؛ قال: بعد الركوع.
ولما رواه أحمد والبزار والدار قطني والبيهقي والحاكم وصححه عنه، قال: ما زال رسول الله صلي الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا.
وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأن القنوت المسئول عنه هو قنوت النوازل، كما جاء صريحًا في رواية البخاري ومسلم، وأما الحديث الثاني ففي سنده أبو جعفر الرازي وهو ليس بالقوى وحديثه لا ينهض للاحتجاج (انتهى من فقه السنة بتصرف يسير).
* قنوت النوازل:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصحيح أنه يسن عند الحاجة إليه؛ كما قنت رسول الله صلي الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، وأما القنوت في الوتر فهو جائز وليس بلازم، فمن أصحابه من لم يقنت ومنهم من قنت في النصف الأخير من رمضان ومنهم من قنت السنة كلها (أي في الوتر) وقال - أيضًا - شيخ الإسلام: وأوسط الأقوال أن القنوت مشروع غير منسوخ لكنه مشروع للحاجة النازلة لا سنة راتبة جـ 23، ص 99، 103 من مجموع الفتاوى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - أيضًا -: من تأمل الأحاديث علم علمًا يقينًا أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يداوم على القنوت في شيء من الصلوات لا الفجر ولا غيرها، ولهذا لم ينقل هذا أحد من الصحابة بل أنكروه، ولم ينقل أحد عن النبي صلي الله عليه وسلم حرفًا واحدًا مما يظن أنه كان يدعو به في القنوت الراتب وإنما المنقول عنه ما يدعو به في العارض: كالدعاء لقوم أو على قوم، فأما ما يدعو به من يستحب المداومة على قنوت الفجر من قوله: (اللهم اهدني فيمن هديت...) فهذا إنما في السنن أنه علمه للحسن يدعو به في قنوت الوتر ثم العجب أنه لا يستحب المداومة عليه في الوتر الذي هو متن الحديث ويداوم عليه في الفجر، ولم ينقل عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قاله في الفجر.
ومن المعلوم باليقين الضروري أن القنوت لو كان مما يداوم عليه لم يكن هذا مما يهمل ولتوفرت دواعي الصحابة ثم التابعين على نقله، فإنهم لم يهملوا شيئًا من أمر الصلاة التي كان يداوم عليها إلا نقلوه، بل نقلوا ما لم يكن يداوم عليه كالدعاء في القنوت لمعين وعلى معين، وغير ذلك.
مجموع الفتاوى جـ 21، ص 154.
وقال شيخ الإسلام: وقد تبين أنه عند النوازل، وأن الدعاء في القنوت، ليس شيئًا معينًا ولا يدعو بما خطر له بل يدعو من الدعاء المشروع بما يناسب سبب القنوت، كما أنه إذا دعا في الاستسقاء دعا بما يناسب المقصود، فكذلك إذا دعا في الاستنصار دعا بما يناسب المقصود.
* القنوت قبل الركوع:
قال ابن حجر في الفتح عن حميد عن أنس: أن بعض أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم قنتوا في الفجر قبل الركوع وبعضهم بعد الركوع، وروى محمد بن نصر من طريق أخرى عن حميد عن أنس أن أول من جعل القنوت قبل الركوع - أي دائمًا - عثمان لكي يدرك الناس الركعة، وقد وافق عاصمًا على روايته هذه عبد العزيز بن صهيب عن أنس (ثم قال الحافظ): ومجموع ما جاء عن أنس في ذلك أن القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف عنه في ذلك، وأما لغير الحاجة فالصحيح عنه أنه قبل الركوع.
وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك، والظاهر أنه من الاختلاف المباح.
والأحاديث الثابتة دالة على أن القنوت بمعنى الدعاء الذي يجهر به الإمام إنما هو القنوت بعد الركوع.
* إذا قنت الإمام:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا اقتدى المأموم بمن يقنت في الفجر أو الوتر قنت معه سواء قنت قبل الركوع أو بعده، وإن كان لا يقنت لم يقنت معه.
ولو كان الإمام يرى استحباب شيء والمأمومون لا يستحبونه فتركه لأجل الاتفاق والائتلاف، كان قد أحسن ج22، ص267... (إلخ).
* القنوت حال القيام:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الدعاء مناسب لقول العبد: سمع الله لمن حمده، فإنه يشرع الثناء على الله قبل دعائه، كما بنيت فاتحة الكتاب على ذلك أولها ثناء وأخرها دعاء.
قال ابن حجر في الفتح: وظهر لي أن الحكمة في جعل قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود مع أن السجود مظنة الإجابة، كما ثبت (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) وثبوت الأمر بالدعاء فيه أن المطلوب في قنوت النازلة أن يشارك المأموم الإمام في الدعاء ولو بالتأمين ومن ثم اتفقوا على أنه يجهر به بخلاف قنوت الصبح فاختلف في محله وفي الجهر به (انتهى).
* التأمين في القنوت:
قال محمد بن نصر: والذي أختاره أن يسكتوا حتى يفرغ الإمام من قراءة السورتين، ثم إذا بلغ بعد ذلك مواضع الدعاء أمَّنوا.
وقال معاذ القارئ في قنوته: اللهم قحط المطر. فقالوا: آمين. فلما فرغ من صلاته قال: قلت اللهم قحط المطر فقلتم: آمين. ألا تسمعون ما أقول ثم تقولون آمين.
وقيل للحسن: إنهم يضجون في القنوت. فقال: أخطأوا السنة كان عمر يقنت ويؤمن من خلفه.
وقال المطيعي في هامش المجموع: من البدع التي لم نجد لها أصلاً قول المأمومين وكأنهم في حلقة من حلقات التواجد عند عبارات الثناء هذه: (حقًّا)، وقولهم عند تباركت ربنا وتعاليت:(ياألله)، ويجاريهم في ذلك بعض المتفقهين.
وقال النووي في المجموع: ما معناه: يؤمِّن عند الدعاء ويشارك أو يسكت عند الثناء، والمشاركة أولى؛ لأنه ثناء وذكر لا يليق فيه التأمين.
* مسح الوجه:
وردت أحاديث في مسح الوجه بعد الدعاء كلها ضعيفة لا تنهض للاحتجاج ولم ترد أحاديث في غير الوجه يمسح بعد الدعاء، فمن لم يمسح الوجه في الدعاء فلا يمسح غيره، والله أعلم.
قال ابن القيم: وكان هديه صلي الله عليه وسلم القنوت في النوازل خاصة وتركه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها لأجل ما شرع فيها من التطويل ولاتصالها بصلاة الليل وقربها من السحر وساعة الإجابة وللتنزل الإلهي، ولأنها الصلاة المشهودة التي يشهدها الله وملائكته أو ملائكة الليل والنهار، كما روي هذا، وهذا في تفسير قوله تعالى: ( إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:78] زاد المعاد جـ 1، ص273 .
وقال ابن القيم: فنقول وبالله التوفيق: أحاديث أنس كلها صحاح يصدق بعضها بعضًا ولا تناقض، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير القنوت الذي ذكره بعده، والذي وَقَّته غير الذي أطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام، والذي ذكره بعده هو إطالة القيام للدعاء، فعله شهرًا يدعو على قوم ويدعو لقوم ثم استمر يطيل هذا الركن للدعاء والثناء إلى أن فارق الدنيا، كما في الصحيحين عن ثابت عن أنس قال: إني لا أزال أصلي بكم كما كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يصلي بنا، قال: وكان أنس يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا. حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة يمكث حتى يقول القائل: قد نسي. فهذا هو القنوت الذي ما زال عليه حتى فارق الدنيا.
ومعلوم أنه لم يكن يسكت في مثل هذا الوقوف الطويل، بل كان يثني على ربه ويمجده ويدعوه، وهذا غير القنوت المؤقت بشهر، فإن ذلك دعاء على رِعْل وذكوان وعصية وبني لحيان. ودعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة. وأما تخصيص هذا بالفجر فبحسب سؤال السائل، فإنما سأله عن قنوت الفجر فأجابه عما سأله عنه. وأيضًا فإنه كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات. ويقرأ فيها الستين إلى المائة، وكان كما قال البراء بن عازب: وركوعه واعتداله وسجوده وقيامه متقاربٌ. وكان يظهر من تطويله بعد الركوع في صلاة الفجر ما لا يظهر في سائر الصلوات بذلك.
ومعلوم أنه كان يدعو ربه ويثني عليه ويمجده في هذا الاعتدال. وهذا قنوت منه لا ريب، فنحن لا نشك ولا نرتاب أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا.
ولما صار القنوت في لسان الفقهاء وأكثر الناس هو هذا الدعاء المعروف: اللهم اهدني فيمن هديت... إلى آخره، وسمعوا أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم. ونشأ من لا يعرف غير ذلك فلم يشك أن رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مداومين عليه كل غداة وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهور العلماء، وقالوا: لم يكن هذا من فعله الراتب بل لا يثبت عنه أنه فعله (زاد المعاد جـ 1 ص282، 382).
وقال ابن القيم: فأهل الحديث متوسطون وهم أسعد الناس بالحديث من الطائفتين، فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلي الله عليه وسلم، ويتركونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه، ويقولون: فعله سنة وتركه سنة، ومع هذا فلا ينكرون على من دوام عليه ولا يكرهون فعله ولا يرونه بدعة ولا فاعله مخالفًا للسنة.
كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل ولا يرون تركه بدعة ولا تاركه مخالفًا للسنة، بل من قنت فقد أحسن، ومن ترك فقد أحسن. زاد المعاد جـ1، ص275.
وخلاصة القول:
إن القنوت ثابت في النوازل، جائز في الوتر خاصة النصف الآخر من رمضان وهو القنوت بمعنى الدعاء، ولم يثبت في قنوت الفجر سنة، وأما القنوت بمعنى طول القيام أو طول العبادة والسكوت طاعة لله عز وجل فيحمل عليه سائر الأحاديث الواردة في القنوت، ويتضح هذا لمن تدبر الأحاديث وأقوال أهل اللغة في معنى القنوت وفي أقوال الفقهاء التي ذكرناها.
والله هو الهادي للصواب، والله من وراء القصد.
الوصية بصالح الأعمال(الحلقة السابعة والأخيرة) - القنوت