طباعة
المجموعة: ربيع الآخر 1444هـ
الزيارات: 704

دراسات شرعية: أثر السياق فى فهم النص (١٥٥) المعازف (٣).

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، وبعد: تكلمت فى المقالتين السابقتين عن تعريف المعازف، والأحاديث الواردة عنها، وختمت بحديث هشام بن عمار فى صحيح البخارى. ورددت على النقد الموجه للسند:

١- دعوى اضطراب السند.

٢- إن الحديث مداره على هشام بن عمار وهو متكلم فيه.

٣- الحديث معلق، والمعلق من أقسام الضعيف.

٤- دعوى أن الحديث آحاد، وحديث الآحاد لايعمل به.

فقد فرق بعضهم بين حديث الآحاد والحديث المتواتر، وقالوا أن حديث الآحاد لاتثبت به عقيدة، وفرقوا بين أحاديث العقائد وأحاديث الأحكام، فهل هذا التفريق يوجد به دليل من كتاب وسنة. وقالوا إن حديث الآحاد لايفيد إلا الظن، والظن الراجح يجب العمل به فى الأحكام اتفاقا ولا يجوز الأخذ به عندهم في الأخبار الغيبية والعقيدة. والأدلة على وجوب الأخذ بحديث الآحاد عقيدة وأحكاما كثيرة، منها ما هو فى القرآن ومنها ما هو فى الحديث. والأدلة كثيرة أكتفى منها بمثالين. من أ القرآن: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا (الحجرات:٦) فهذا يدل - بمفهوم المخالفة - أن العدل إذا جاء بخبر ما فالحجة قائمة به ولايجب التثبت.

من السنة: بوب البخارى فى الصحيح: باب ما جاء فى إجازة خبر الواحد الصدوق فى الآذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام …. ثم ساق أحاديث مستدلا بها على إجازة خبر الواحد منها: حديث أنس بن مالك رضى الله عنه: أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والإسلام قال: فأخذ بيد أبى عبيدة فقال: هذا أمين هذه الأمة (متفق عليه،ورواه البخارى مختصرا.)

وقد تكرر ذلك من إرسال النبى صلى الله عليه وسلم الصحابى الواحد ليعلم الناس العقائد والأحكام ….(انظر لمزيد من الأدلة: الحديث حجة بنفسه فى العقائد والأحكام للألبانى).

قلت: حتى من قال بعدم العمل بحديث الآحاد، يقصد عدم العمل به فى العقائد، وحديث المعازف فى الأحكام وليس في العقائد، لأنه ليس المقصود من (يستحلون) فيه الاستحلال العقدى على ماأشرت إلى ذلك من قبل.

وأنتقل بإذن الله تعالى - لمتن الحديث، والنقد الموجه لمتنه والرد عليه أولا: القول بعدم الاتفاق على معنى كلمة المعازف بالتحديد. ولقد سبق أن بينت معنى كلمة المعازف، وأنها تدور بين آلات اللهو التى يضرب عليها، وأنها ضرب من الطنابير يتخذه أهل اليمن وأن المعازف اسم بجمع العود والطنبور والدف والقيثارة وماشابههم (انظر فى ذلك المراجع التالية: تهذيب اللغة للأزهرى ٢/ ٨٦، المخصص لابن سيده ٤/ ١١، شمس العلوم ٧/ ٤٥١٢، تاج العروس ٢٤/ ١٥٥، ٨/ ٤٣٦، المغرب ١/ ٣١٤، مختار الصحاح ص ٢٠٨، لسان العرب ٩/ ٢٤٤، المصباح المنير ٢/ ٤٠٧، معجم اللغة العربية المعاصرة ٢/ ١٤٩٣، ٢٠٤٣، ٣/ ٢١٣٩، معجم لغة الفقهاء ص ٤٣٧).

٢- ضعف دلالة الاقتران:

دلالة الاقتران هى عطف جملة على جملة،كقوله تعالى: (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) (الأنعام ١٤١).

أو عطف لفظ على لفظ مثل (واستعينوا بالصبر والصلاة) (البقرة: ٤٥). وقولهم إن دلالة الاقتران دلالة ضعيفة، هكذا على الإطلاق غير صحيح، فقد تكون دلالة الاقتران قوية يحتج بها، وقد تكون ضعيفة لايحتج بها وذلك عند تعدد الجمل واستقلال كل جملة بنفسها.

أولا: أمثلة تكون فيها دلالة الاقتران قوية يحتج بها، وذلك عندما يجمع بين شيئين أو أكثر بحكم واحد.

١- كقوله تعالى (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) (المائدة: ٣١) فالحكم واحد يشمل الجميع وهو الرجس المعنوى، والمحكوم عليه متعدد، فالحكم واحد يشمل الجميع وهو الرجس المعنوى، والمحكوم عليه متعدد. ٢- قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون) (النور: ٥٦).دلالة الاقتران قوية وهى الوجوب.

٣- حديث النبى صلى الله عليه وسلم: ثلاث حق على كل مسلم: الغسل يوم الجمعة، والسواك، ويمس من طيب إن وجد (مسند أحمد، صححه الأرناؤوط والألبانى فى السلسلة الصحيحة). فقد اشترك الثلاثة فى حكم واحد وهو حق على كل مسلم، فإذا كان السواك والطيب مستحبين كان الثالث وهو اغتسال يوم الجمعة مستحبا (وهو ما عليه الجمهور).

ثانيا: أمثلة تكون فيها دلالة الاقتران ضعيفة، وذلك عند تعدد الجمل واستقلال كل جملة بنفسها. مثل قوله تعالى: (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) (الأنعام: ١٤١) فدلالة الاقتران هنا ضعيفة لاستقلال كل جملة بنفسها وحكمها، فالأكل من الثمر على الإباحة، أما الزكاة فهى واجبة.

٢-حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لايبولن أحدكم فى الماء الراكد، ولايغتسل فيه من الجنابة) (مسلم وابن ماجه) إذا كانت العلة هى النجاسة للبول، فهذا لايشمل اغتسال الجنب لأن المنى طاهر، فحكم البول يختلف عن حكم المنى.

٣- حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لاإله لاالله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ……(متفق عليه).

فدلالة الاقتران هنا ضعيفة لأنه ترك الشهادتين كفر بإجماع، بينما ترك الصلاة والزكاة، فالجمهور على أنه لاكفر إلا بالجحود.

ونعود لحديث المعازف، فهل دلالة الاقتران فيه قوية أم ضعيفة ؟.

ليكونن من أمتى أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف. على ضوء مابينت فى نوعى دلالة الاقتران من حيث القوة والضعف، نجد أن دلالة الاقتران فى الحديث هنا قوية، لأن المذكورات فى الحديث يشملها حكم واحد.

فقوله صلى الله عليه وسلم: يستحلون، معناه أن المذكورات ليست حلالا، وإنما هى محرمات، ولو لم تكن حراما ما قال: يستحلون، وكل من الزنا، والخمر،والحرير - على الرجال- محرمات نصا وإجماعا.

ثالثا:قولهم أن الاستحلال اعتقاد أن ذلك حلال.

الاستحلال هو أن يقول مثلا: أعلم أن الخمر حرام ولكنى سأشربها، والزنا حرام ولكنى سأفعله.

فهذا لاشك أنه يكفر - بعد تحقق الشروط وانتفاء الموانع والاستتابة، لأنه من استحل ما علم من الشرع تحريمه، فقد كذّب الله تعالى، وكذّب رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وبلغ عن ربه سبحانه وتعالى. يقول ابن تيمية عن الاستحلال فى الحديث: فإنهم لو استحلوها مع اعتقادهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرمها كانوا كفارا ولم يكونوا من أمته ….. فيشبه أن يكون استحلالهم الخمر، يعنى أنهم يسمونها بغير اسمها كما فى الحديث، فيشربون الأشربة المحرمة ولايسمونها خمرا، واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سماع صوت فيه لذة، وهذا لايحرم كألحان الطيور، واستحلال الحرير وسائر أنواعه بإعتقادهم أنه حلال للمقاتلة (للجنود) وقد سمعوا أنه يباح لبسه عند القتال، فقاسوا سائر أحوالهم على تلك ….(ابن تيمية: إبطال التحليل ص ٢٠-٢١، نقلا عن تحريم آلات الطرب للألبانى ص ٩٧).

وهذا المعنى الاصطلاحى - للاستحلال - جاء بعد عصر النبى صلى الله عليه وسلم،ككل الاصطلاحات التى جاءت بعد عصر النبى صلى الله عليه وسلم، ككلمة سنة فى أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم صارت بعد ذلك اصطلاحا مرادفة للمستحب.

وإصرار المسلم على الذنب لايدل على الاستحلال إن اعتقد التحريم ولكن تغلبه شهوته، وإن كان قد وقع فى كبيرة من الكبائر.

فالمسلم الذى يستحل أى شئ حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو مكذب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وليس المذكور فقط فى حديث المعازف.

رابعا- القول أن الحرمة فى الحديث من اقتران المذكورات فى الحديث مع بعضها البعض. فالقاعدة أنه لايجمع بين مباح ومحرم فى الوعيد.

يقول السمعانى: لايصح الجمع بين شيئين في الوعيد إلا وأن يكون كل واحد منهما يستحق عليه الوعيد (قواطع الأدلة للسمعانى ١/٤٦٥).

وهذا باطل، وإلا كان الزنا وشرب الخمر فى الحديث ليسا بمحرمين إلا عند اقترانهما بباقى المذكورات فى الحديث. فكل من المذكورات الاربعة فى الحديث هو حرام بمفرده. وكذلك قولهم أن الوعيد على شرب الخمر وأن المعازف مكملة، هو كسابقه قول باطل.

يقول الشوكانى، بعد أن ذكر أقوال المجوزين لسماع المعازف: أنه يحتمل أن تكون المعازف المنصوص على تحريمها هى المقترنة بشرب الخمر، كما ثبت فى رواية بلفظ: ليشربن أناس من أمتى الخمر تروح عليهم القيان وتغدو عليهم المعازف. ويجاب: بأن الاقتران لايدل على أن المحرم هو الجمع فقط، وإلا لزم أن الزنا المصرح به فى الحديث لايحرم إلا عند شرب الخمر واستعمال المعازف، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله (نيل الأوطار ٨/١١٦).

ففى الحديث قرن الأربعة تحت حكم واحد: يستحلون. فلا يصح حملها على المجموع كله دون أفراد المذكورات.

قال الله تعالى: والذين لايدعون مع الله إلها آخر ولايقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولايزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (الفرقان: ٦٨). فهل نقول أن التحريم المذكور فى الآية يكون عند اقتران المذكورات فى الآية مع بعضها البعض،هذا لايقوله عاقل على الاطلاق. وكذلك قوله تعالى: إنه كان لايؤمن بالله العظيم ولايحض على طعام المسكين (الحاقة - ٣٣-٣٤).أنه لايحرّم عدم الإيمان بالله إلا عند عدم الحض على طعام المسكين.

وللحديث بقية، والحمدلله رب العالمين