دراسات شرعية: أثر السياق فى فهم النص (١٥٤) - المعازف (٢).
كتبه د. متولى البراجيلي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، وبعد، فى المقال السابق تكلمت عن تعريف المعازف، ثم عن الأحاديث الواردة فى المعازف الصحيح منها وغير الصحيح. وختمت بحديث البخارى حديث هشام بن عمار، ورأينا النقد الموجه لسند الحديث:
١. دعوى اضطراب السند،ورددت على ذلك.
٢. الحديث مداره على هشام بن عمار،وهو متكلم فيه، ورددت على ذلك.
٣. الحديث معلق، والمعلق من أقسام الضعيف
ما هو الحديث المعلق؟
هو ما حذف من بداية إسناده- من جهة المصنف - راو واحد أواكثر على التتابع، أي أن فيه انقطاعا.فقد يحذف السند بالكامل ويقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد يحذف بعض السند أو راو واحد من السند.
وللحكم على الحديث المعلق،لابد من جمع طرقه والبحث في أسانيده قبل الحكم عليه .
فقد طعن ابن حزم فى حديث هشام بن عمار وقال بانقطاعه-يعني معلقا -فقال: وأما حديث البخارى فلم يورده مسندا، وإنما قال فيه: قال هشام بن عمار ثم إلى أبى عامر أو إلى أبى مالك ولايدرى أبو عامر هذا (انظر رسائل ابن حزم ١/ ٤٣٤، رسالة فى الغناء الملهي) وسبق الرد على دعوى اضطراب السند بين أبى عامر وأبى مالك فى المقال السابق، وبينت أن الإثنين من الصحابة رضى الله عنهما، والصحابة كلهم عدول، وهذا لايؤثر فى السند. وذكرت أن هناك من أخرجه جزما من حديث أبى مالك الأشعرى بغير شك، وهناك من أخرجه عن الصحابيين كليهما.
٣. أما دعوى ابن حزم أن الحديث منقطع بين البخاري وهشام بن عمار (يعني معلقا): يقول ابن الصلاح: التعليق... فى أحاديث من صحيح البخارى قطع إسنادها وصورته صورة الإنقطاع، وليس حكمه حكمه ولا خارجا ما وجد ذلك فيه من قبيل الصحيح إلى قبيل الضعيف وذلك لما عرف من شرطه وحكمه، ولا التفات إلى أبى محمد بن حزم الظاهرى الحافظ فى رده ما أخرجه البخارى من حديث أبى عامر أو أبى مالك الأشعرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليكونن من أمتى أقوام يستحلون ….. من جهة أن البخارى أورده قائلا فيه قال هشام بن عمار وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخارى وهشام وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف وأخطأ فى ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح، والبخارى قد يفعل ذلك لكون ذلك الحديث معروفا من جهة الثقات عن ذلك الشخص الذى علقه عنه، أو ذكر ذلك الحديث فى موضع آخر من كتابه مسندا متصلا، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التى لايصحبها خلل الإنقطاع (انظر مقدمة ابن الصلاح ص ٦٧-٦٨).
ويقول الحافظ ابن حجر: وقد تقرر عند الحفاظ أن الذى يأتى به البخارى من التعاليق كلها بصيغة الجزم يكون صحيحا إلى من علق عنه، ولو لم يكن من شيوخه، لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولا إلى من علق عنه بشرط الصحة أزال الإشكال، ولهذا عنيت فى ابتداء الأمر بهذا النوع وصنفت كتاب تغليق التعليق، وقد ذكر شيخنا فى شرح الترمذى وفى كلامه على علوم الحديث أن حديث هشام بن عمار جاء عنه موصولا فى مستخرج الإسماعيلى: قال حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن عمار.وأخرجه الطبرانى فى مسند الشاميين فقال: حدثنا محمد بن بزيد بن عبد الصمد حدثنا هشام بن عمار) (انظر فتح البارى ١٠/ ٥٣).
وقد نقل ابن الصلاح عن جعفر بن حمدان النيسابورى أنه قال: كل ما قاله البخارى (قال لى فلان) فهو عرض ومناولة (انظر مقدمة ابن الصلاح ص٧٠).
يقول الحافظ ابن حجر:…… والذى يظهر لى الآن (أى لماذا قال البخارى قال هشام بن عمار) أنه لقصور فى سياقه وهو هنا تردد هشام فى اسم الصحابي…. ثم قال وأما كونه سمعه من هشام بلاواسطة وبواسطة فلاأثر له، لأن لايجزم إلا بما يصلح للقبول ولاسيما حيث يسوقه مساق الاحتجاج (انظر فتح البارى ١٠/ ٥٣).
وقال الإمام النووى: قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله: وهكذا الأمر فى تعليقات البخارى بألفاظ جازمة مثبتة على الصفة التى ذكرناها كمثل ماقال فيه: قال فلان أو روى فلان أو ذكر فلان أو نحو ذلك، ولم يصب أبو محمد بن حزم الظاهرى حيث جعل مثل ذلك انقطاعا قادحا فى الصحة واستروح إلى ذلك فى تقرير مذهبه الفاسد فى إباحة الملاهى، وزعمه أنه لم يصح فى تحريمها حديث، مجيبا عن حديث أبى عامر أو أبى مالك الأشعرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليكونن فى أمتى أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف) إلى آخر الحديث، فزعم أنه وإن أخرجه البخارى فهو غير صحيح لأن البخارى قال فيه قال هشام بن عمار وساقه بإسناده فهو منقطع فيما بين البخارى وهشام، وهذا خطأ من ابن حزم من وجوه: أحدها:أنه لا انقطاع فى هذا أصلا من جهة أن البخارى لقى هشاما وسمع منه، وقد قررنا فى كتابنا علوم الحديث أنه إذا تحقق اللقاء والسماع مع السلامة من التدليس حمل ما يرويه عنه على السماع بأى لفظ كان، كما يحمل قول الصحابى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على سماعه منه، إذا لم يظهر خلافه وكذا غير (قال) من الألفاظ. الثانى: أن هذا الحديث بعينه معروف الاتصال بصريح لفظه من غير جهة البخارى. الثالث: أنه إذا كان ذلك انقطاعا فمثل ذلك فى الكتابين غير ملحق بالانقطاع القادح لما عرف من عادتهما وشرطهما وذكرهما ذلك فى كتاب موضوع لذكر الصحيح خاصة فلن يستجيزا فيه الجزم المذكور من غير ثبت وثبوت، بخلاف الانقطاع أو الإرسال الصادر من غيرهما، هذا كله فى المعلق بلفظ الجزم (انظر شرح النووى على مسلم ١/ ١٨ -١٩، مقدمة ابن الصلاح ص ٦٧-٦٨).
يقول الشيخ الألبانى: قال شيخ الإسلام ابن تيمية فى كتابه الإستقامة ١/ ٩٤: والآلات الملهية قد صح فيها ما رواه البخارى فى صحيحه تعليقا مجزوما به داخلا فى شرطه.
قلت (الألبانى): وهذا النوع من التعليق صورته صورة التعليق كما قال الحافظ العراقى فى تخريجه لهذا الحديث فى المغنى عن حمل الأسفار ٢/ ٢٧١، وذلك لأن الغالب على الأحاديث المعلقة أنها منقطعة بينها وبين معلقها، ولها صور عديدة معروفة وهذا ليس فيها، لأن هشام بن عمار من شيوخ البخارى الذين احتج بهم فى صحيحه فى غير ما حديث كما بينه الحافظ ابن حجر فى ترجمته من مقدمة الفتح، ولما كان البخارى غير معروف بالتدليس كان قوله فى هذا الحديث: قال فى حكم قوله: عن أو حدثنى أو قال لى: ثم يقول …. على أنه لو فرض أنه منقطع فهى علة نسبية لايجوز التمسك بها لأنه قد جاء موصولا من طرق جماعة من الثقات الحفاظ سمعوه من هشام بن عمار، فالمتشبث والحالة هذه بالانقطاع يكابر مكابرة ظاهرة ظاهرة كالذى يضعف حديثا بإسناد صحيح متشبثا بإسناد له ضعيف (انظر تحريم آلات الطرب ص ٣٩-٤٠).
وقد وصل الحافظ ابن حجر الحديث من رواية تسعة عن هشام متصلا فيهم مثل الحسن بن سفيان وعبدان وجعفر الفريابى، وهؤلاء الحفاظ أثبات.
... ثم إن الحديث لم ينفرد به هشام بن عمار ولا صدقة، كما ترى قد أخرجناه من رواية بشر بن بكر عن شيخ صدقة، ومن رواية مالك بن أبى مريم عبد الرحمن بن غنم شيخ عطية بن قيس، وله عندى شواهد أخرى كرهت الإطالة بذكرها (انظر تغليق التعليق ٥/ ١٧- ٢٢).
قلت: والبخارى أورد الحديث تحت باب: ماجاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، ولم يورد إلا هذا الحديث فى الباب، مما يؤكد اتصاله لأنه حجته فى الباب.
والحديث صححه جماعات من أهل العلم من القدامى والمعاصرين منهم: ابن الصلاح فى الباعث الحثيث، قال: ثابت ١/ ١٢٤.الهيثمى فى الزواجر عن اقتراف الكبائر، قال: صح من طرق بأسانيد صحيحة لامطعن فيها. ٢/ ٢٠٣. ابن القيم فى تهذيب السنن قال صحيح: ١٠/ ١٥٣، ابن رجب فى نزهة الأسماع قال صحيح ٢/ ٤٤٩. وابن تيمية فى الفتاوى الكبرى قال: إسناده صحيح ٦/ ٣٨.
والحافظ ابن حجر:وهذا حديث صحيح له علة ولا مطعن فيه وله شواهد (تغليق التعليق ١٧/٥)
وغيرهم:عبد الحق الإشبيلى، والرباعي،ومحمد بن عبد الهادي،وابن حبان،والإسماعيلي، والنووي،وابن كثير، وابن الوزير الصنعانى، والسخاوي،والامير الصنعاني وغيرهم (ولم اذكر المصادر لعدم الإطالة).
وابن حزم مع علمه وفضله وعقله، فهو ليس طويل الباع فى الإطلاع على الأحاديث وطرقها ورواتها، ومن الأدلة على ذلك تضعيفه لهذا الحديث، وقوله فى الإمام الترمذى صاحب السنن: مجهول. وذلك مما حمل العلامة محمد بن عبد الهادى - تلميذ ابن تيمية - على أن يقول فى ترجمته فى (مختصر طبقات علماء الحديث ص ١٠٤): وهو كثير الوهم فى الكلام على تصحيح الحديث وتضعيفه، وعلى أحوال الرواة (انظر السلسلة الصحيحة للألبانى تحت ح ٩١ الجزء الأول).
وقد حكى الإجماع على تحريم المعازف جماعة من أهل العلم، منهم القرطبى: قال أما المزامير والأوتار والكوبة (الطبل) فلا يختلف فى تحريم استماعها،ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك (انظر الزواجر عن الكبائر لابن حجر الهيتمى ٢/ ٣٣٧) وابن حجر الهيتمى فى الزواجر عن اقتراف الكبائر ذكر أن ذلك من الكبائر فقال: الكبيرة السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والأربعون، والخمسون والحادية والخمسون بعد الأربعمائة: ضرب وتر واستماعه، وزمر بمزمار واستماعه، وضرب بكوبة واستماعه (انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر ٢/ ٣٣٦).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام ….. ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة فى آلات اللهو نزاعا (انظر مجموع الفتاوى ١١/ ٥٧٦-٥٧٧) و الحافظ ابن حجر: وهذا حديث صحيح له علة ولامطعن فيه وله شواهد ص ١٥٧، تعليق التعليق ٥/ ٧)، وعبد الحق الإشبيلى، والرباعى، ومحمد بن عبد الهادى، وابن حبان، والإسماعيلى، والنووى، وابن كثير، ابن الوزير الصنعانى، السخاوى، الأمير الصنعانى وغيرهم، ومن المعاصرين الألبانى فى السلسلة الصحيحة ١، ح ٩١، ابن باز: فى مجموع فتاوى ابن باز، قال: صحيح ٢١/ ١٦٧ ابن عثيمين فى الشرح الممتع: قال: لاشك ف صحته ١٢/ ٣٥٠. والأرناؤط قال: صحيح فى تخريج صحيح ابن حبان ح ٦٧٥٤