نظرات في زواج التحليل (2) المراد بزواج التحليل

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1]

والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:

فهذه المقالة الثانية في زواج التحليل، وهي مقالة مختصرة المراد منها بيان مسألة واحدة وهي:

بيان المراد بزواج التحليل.

زواج التحليل: زواج المقصد منه البناء بالمرأة لتحل لزوجها الأول الذي بانت منه بينونة كبرى بعد تطليقها آخر ثلاث طلقات؛ لأنها بهذه التطليقة الثالثة تحرم على هذا المطلق تحريمًا موقتًا لأمد حتى تنكح زوجًا غيره.

ولابد هنا من تمهيدين قصيرين يفقه بهما هذه المسألة على وجهها الشرعي - ولو كان ذلك على وجه الإجمال لا التفصيل -:

التمهيد الأول: النساء اللاتي يحرم الزواج منهن ينقسمن إلى قسمين:

القسم الأول: المحرمات إلى الأبد، وهن خمسة أقسام:

1 - محرمات بالنسب وهن سبع: الأم وإن علت، والبنت وإن سفلت، والأخت، والخالة، والعمة، وبنت الأخ، وبنت الأخت.

2 - محرمات بالرضاع وهن سبع: فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فكل امرأة حَرُمت من النسب حَرُمَ مثلها من الرضاع إلا أم أخيه، وأخت ابنه من الرضاع فلا تحرم.

3 - محرمات بالمصاهرة، وهن أربع: أم الزوجة، وبنت الزوجة من غيره إذا دخل بأمها، وزوجة الأب، وزوجة الابن.

4 ـ محرمات بالاحترام: وهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهن أمهات للمؤمنين، قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6].

5 ـ محرمات باللِّعان: وهي المرأة التي لاعنها زوجها بالزنا، أو به وبنفي الولد؛ فتحرم عليه أبدًا، قال ابن قدامة في المغني (11 / 149): «تحرم عليه باللعان تحريما مؤبدًا، فلا تحل له، وإن أكذب نفسه، في ظاهر المذهب.

ولا خلاف بين أهل العلم، في أنه إذا لم يكذب نفسه لا تحل له، إلا أن يكون قولاً شاذًّا».

القسم الثاني: المحرمات إلى أمد ـ أي: تحريمًا مؤقتًا ـ وهن سبعة أقسام:

1 ـ المرأة المتزوجة.

2 ـ المرأة المعتدة، بعدة طلاق أو عدة وفاة.

3 ـ المرأة المُحَرَّمَةُ بسبب الجمع، فيحرم عليه الجمع بين المرأة وأختها، أو المرأة عمتها، أو المرأة وخالتها.

4 ـ المرأة الكافرة غير الكتابية، كالوثنية، والمُلحدة، والمرتدة.

5 ـ المرأة الخامسة لمن في عصمته أربع نساء.

6 ـ المرأة المُحْرِمة بحج أو عمرة.

7 ـ المرأة المطلقة طلقة بائنة بينونة كبرى لزوجها الذي طلقها، فلا تحل له حتى تتزوج زوجًا غيره، زواجًا صحيحًا، زواج رغبة ـ لا تحليل ـ، ثم يموت عنها، أو تطلق منه، أو تختلع، أو ينفسخ النكاح، فعندها تنهدم الطلقات الثلاث التي طلقها هذا الزوج ويحل له الزواج من هذه المرأة بعقد ومهر جديدين؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230].

فلا تحل للمطلق ثلاثًا بيقين إلا بتحقق هذه الشروط، قال ابن حزم في مراتب الإجماع ـ تحقيق: محمد صلاح فتحي، وهي أجود طبعات الكتاب ـ (ص 357 ـ 358): «واتفقوا أنه ... إن اتبع بعد تلك الثانية ـ كما ذكرنا أيضًا ـ ثالثة قبل انقضاء عدتها: فإنها لازمة له، وأنه قد سقط مراجعتها، ويحرم عليه نكاحها إلا بعد زوج...

ـ واتفقوا أنه إن تزوجها: زوج مسلم، حر، بالغ، عاقل، راغب، غير مقصود به التحليل، نكاحًا صحيحًا، ... ثم وطئها في فرجها، وأنزل المني، وهما غير محرمين ولا أحدهما، ولا صائمين فرضًا ولا أحدهما، ولا هي حائض، وهما عاقلان، ثم مات عنها، أو طلقها طلاقًا صحيحًا، أو انفسخ نكاحها، فأتمت عدتها، فإن نكاحها الزوج الأول بعد ذلك فنكاحه لها حينئذٍ حلالٌ، وهكذا أبدًا».

واتَّفق العلماء على أنَّ النِّكاح الذي يحلها هو الإصابة، وذلك بإيلاج الحشفة، أو قدرها من مجبوبٍ في فرج المرأة المطلَّقة، مع انتشار، وإن لم ينزل، فلا يكفي:

- مجرَّد العقد.

- ولا الخلوة.

- ولا المباشرة دون الفرج.

- ولا كون العقد الثاني باطلًا أو فاسدًا، بل لابُدَّ أنْ يكون بعقدٍ صحيح.

[توضيح الأحكام، للبسام (5 / 305)]

خلافًا لقول من صرح بأن العقد وحده يحلها فهو قول شاذ لا يعول عليه، لحديث عائشة ـ رضي الله عنها: «أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزَّبِيرِ القُرَظِي، وإنما معه مثل هُدْبَةِ الثَّوْبِ؟

 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟!

 لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته».

[الحديث أخرجه البخاري في مواضع منها: (2639)، ومسلم (1433).

وهدبة الثوب: طرفه الذي لم ينسج كَنَّتْ بهذا عن استرخاء ذكره، وأنه لا يقدر على الوطء.

وعسيلته: تصغير عسلة، وهي كناية عن الجماع فقد شبه لذته بلذة العسل وحلاوته].

وتلك المسألة هي المسألة المراد بيانها في هذا المقال.

التمهيد الثاني: أن مقاصد المكلفين في التكليف تنقسم إلى قسمين:

[ومعنى مقاصد المكلفين: أي: الغايات التي يريد تحقيقها من فعل العبادات والمعاملات، وهي معتبرة إجماعًا.

وشرط التكليف: البلوغ، والعقل، والاختيار، والعلم، وفهم الخطاب، والاستطاعة].

القسم الأول: مقاصد معتبرة، وهي المقاصد التي أذن فيها الشرع، كمقصده من البيع والشراء الصحيحين، وهو انتقال الملك وجواز التصرف في المبيع بالانتفاع أو البيع أو الإجارة أو الهبة ...، ومقصده من الزواج الصحيح من حل الاستمتاع بالمرأة وطلب الولد ...

فهذه المقاصد المعتبرة التي أذن فيها الشرع له أثر في صحة العمل إذا انضم لها موافقة العمل للشرع - أي: صحته، وتعتبر صحة العمل: بتحقق الشروط، وانتفاء الموانع، واكتمال الأركان والواجبات-.

القسم الثاني: مقاصد غير معتبرة، وهي المقاصد التي لم يأذن فيها الشرع، كمقصده من عقد العقود الربوية لكسب المال مثلاً، ومقصده من تأقيت الزواج وهو حل الاستمتاع بالمرأة المعقود عليها ...

فهذه المقاصد غير المعتبرة التي لم يأذن فيها الشرع فاسدة مهدرة لا يعتبرها الشرع، ولو انضم لها موافقة العمل للشرع في الظاهر - بتحقق الشروط، وانتفاء الموانع، واكتمال الأركان -.

[ينظر تعريف الشاطبي لمقاصد المكلفين في كتاب: الموافقات (2 /289)]

عود على بدء:

نرجع الآن لمسألة الباب، فنقول سبق في المقال الأول أن مقصد المكلف من الزواج يتلخص في ثلاثة أشياء مأذون فيها، وهي:

1 ـ تحقيق السكن والمودة بين الزوجين.

2 ـ إعفاف الزوجين بإرواء الغريزة الجنسية بالحلال الطيب.

3 ـ طلب الولد الصالح.

فأي هذه المقاصد الثلاثة أراد المحلل من زواج التحليل؟

والجواب: أنه لم يرد أحد هذه الثلاثة، وإنما أراد مقصدًا آخر غيرها، وهو:

 الدخول بالمرأة دخولاً صحيحًا في عقد صحيح مكتمل الأركان والواجبات تحققت فيه الشروط وانتفت الموانع؛ ثم يقوم بتطليق المرأة لتحل لزوجها الأول.

فهل اعتبر الشرع هذا المقصد وأذن فيه؟

والجواب: لم يأذن الشرع في هذا المقصد، ولا اعتبره بل أهدره وتوعد فاعله، وتوعد من أذن بها أو تواطأ عليه بالطرد من رحمة الله عز وجل، والدليل على ذلك:

قول النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله المحلل والمحلل له .

وهو حديث صحيح قد جاء عن جماعة من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وهم:

1 - علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-:

أخرجه أحمد (635)، وأبو داود (2076)، والترمذي (1119)، وابن ماجه (1935)، وابن أبي شيبة (37346)، وسعيد بن منصور (2008)، والبيهقي (14183) (14184) وغيرهم.

قال الحاكم: صحيح الإسناد.

وقد صححه ابن السكن، وأعله الترمذي، وقال: روي عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر، وهو وهم.

2 - عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-:

أخرجه أحمد (4283) (4284) (4403)، والترمذي (1120)، والنسائي في السنن الكبرى (5536)، وابن أبي شيبة (37343)، والدارمي (225)، والبيهقي (14185).

قال الترمذي: قال: هذا حديث حسن صحيح.

وقال الحافظ في التمييز (5 / 2317): «صححه ابن القطان، وابن دقيق العيد، على شرط البخاري».

وقول ابن دقيق في الاقتراح في بيان الاصطلاح (ص 375).

3 - أبو هريرة -رضي الله عنه-:

أخرجه أحمد (2/323)، وابن الجارود في المنتقى (684)، والبيهقي (14186)، وابن أبي حاتم في العلل (1/413)، والترمذي في العلل الكبير (273).

قال الترمذي: سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن، وعبد الله بن جعفر المخرمي صدوق ثقة، وعثمان بن محمد الأخنسي ثقة، وكنت أظن أنّ عثمان لم يسمع من سعيد المقبري.

وقال الزيلعي في نصب الراية (3/ 240): الحديث صحيح.

وقال الحافظ في التمييز (5 / 2319): وحسنه البخاري.

4 – عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-:

أخرجه ابن ماجه (1934).

5 - عقبة بن عامر -رضي الله عنه-:

ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟

 قالوا: بلى، يا رسول الله.

 قال: هو المحلل، لعن الله الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ له».

أخرجه وابن ماجه (1936)، والدارقطني (3576)، والحاكم (2/199)، والبيهقي (14187) (14188).

قال الحافظ في التمييز (5 / 2319): وأعله أبو زرعة وأبو حاتم بأن الصواب رواية الليث عن سليمان بن عبد الرحمن مرسلاً.

وحكى الترمذي عن البخاري أنه استنكره.

وقال أبو حاتم: ذكرته ليحيى بن بكير فأنكره إنكارًا شديدًا، وقال: إنما حدثنا به الليث، عن سليمان، ولم يسمع الليث من مشرح شيئًا.

قلت: ووقع التصريح بسماعه في رواية الحاكم، وفي رواية ابن ماجه عن الليث "قال لي مشرح".

قال عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الوسطى (3 / 157): إسناده حسن.

6 - عبيد بن عمير -رضي الله عنه-:

أخرجه ابن قانع في معجم الصحابة (2/229).

قال الحافظ في التمييز (5 / 2319): وإسناده ضعيف.

ولا شك أن هذا الحديث صحيح، وقد استدل به على مسألتين:

الأولى: عدم اعتبار الشرع لهذا المقصد، فهو نص في حرمة هذا المقصد بل يصح الاستدلال به على أنه كبيرة من الكبائر، خلافًا لمن جعله من المكروهات.

قال الزيلعي في نصب الراية (3 /240): «واعلم: أن المصنف استدل بهذا الحديث على كراهة النكاح المشروط به التحليل، وظاهره يقتضي التحريم، كما هو مذهب أحمد.»

الثانية: الاستدلال به على بطلان نكاح التحليل، وهي المسألة التالية.

قال الحافظ في التمييز (5 / 2320): «استدلوا بهذا الحديث على بطلان النكاح:

- إذا شرط الزوج أنه إذا نكحها بانت منه.

- أو شرط أن يطلقها، أو نحو ذلك.

 وحملوا الحديث على ذلك، ولا شك أن إطلاقه يشمل هذه الصورة، وغيرها».

وقد استدل به أيضًا على صحة النكاح، قال الزيلعي في نصب الراية (3 /240): «ولكن يقال: لما سماه محللاً دل على صحة النكاح، لأن المحلل هو المثبت للحل، فلو كان فاسدًا لما سماه محللاً».

 وهذه طريقة من طرق الحنفية في التمييز بين الشرط الفاسد الذي يهدر فلا يعتبر ولا يبطل العقد، والشرط الباطل الذي يبطله.

وسيأتي ما في هذه المسألة في مسألة حكم نكاح التحليل.

ولماذا لم يعتبر الشرع هذا المقصد؟

والجواب: أن هذا العقد فيه مفسدتان:

الأولى: أنه عقد مؤقت بوصف وهو الدخول الصحيح بالمرأة، فإذا تم هذا الدخول طلق المحلل المرأة إما بالشرط الذي تواطأ عليه مع أحد الزوجين أو بقصده منفردًا من هذا الزواج إن لم يتواطأ عليه، فهو نكاح شرط انقطاعه دون غايته، فأشبه نكاح المتعة المؤقت الذي ينقضي عقده بانتهاء الإجارة على الاستمتاع، وقد خالف بذلك مقاصد الشرع من الزواج.

الثاني: أنه حيلة يراد منها إسقاط الشرط الشرعي المنصوص عليه في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، فهو يريد بهذه الحيلة تغيير الحكم الشرعي بسبب لم يأذن فيه الشرع، بل لعن صاحبه ولعن المتواطئ معه عليه.

[ينظر: بيان الدليل على بطلان التحليل، لابن تيمية (ص 32)، وشفاء العليل في اختصار إبطال التحليل، للبعلي (ص 25)]

هذا ما يسره الله في هذا المقال، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى.