طباعة
المجموعة: ربيع الأول 1443هـ
الزيارات: 1060

سرية نخلة

الحمد لله رب العالمين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمد عبد ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد؛ فإن  النبي صلى الله عليه وسلم  كان يخرج في الغزوات ويبعث السرايا والبعوث؛ وكان من ذلك سرية نخلة وهي موضوعنا في هذا العدد...

اسمها: سرية نخلة في رجب سنة 2 هـ الموافق يناير سنة 624م، وتسمّى بسريّة الأشهر الحرم، وتسمّى أيضًا بسريّة عبد الله بن جحش.[1]

سياق السرية:

عن جندب بن عبد الله "أن رسو الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطًا، وبعث عليهم أبا عبيدة؛ فلما أخذ لينطلق؛ بكى صبابة[2] إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ فبعث رجلًا مكانه يقال له: عبد الله بن جحش؛ وبعث معه بثمانية رهط من المهاجرين، وكتب له كتابًا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه؛ فيمضى لما أمره ولا يستكره من أصحابه أحدًا - وذكر أسماءهم؛ فالأمير عبد الله بن جحش ومعه عكاشة بن محصن وعتبة بن غزوان وسعد بن أبي وقاص وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله وخالد بن البكير وسهيل بن بيضاء- فلما سار عبد الله بن جحش يومين؛ فتح الكتاب ونظر فيه؛ فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا؛ فسر حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف؛ فترصَّد بها قريشًا وتعلَّم لنا من أخبارهم ولم يأمره بقتالٍ؛ فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب؛ قال: سمعًا وطاعة؛ ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أن أمضي إلى نخلة؛ فأرصد بها قريشًا؛ حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني: أن أستكره أحدًا منكم؛ فمن كان منكم يريد الشهادة، ويرغب فيها؛ فلينطلق ومن كره ذلك؛ فليرجع فأما أنا؛ فماضٍ لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ فمضى ومضى معه أصحابه؛ فلم يتخلف عنه منهم أحد، وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له: بُحران؛ أضل سعد ابن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا عليه يعتقبانه؛ فتخلفا عليه في طلبه ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة؛ فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا فيها منهم عمرو بن الحضرمي،  وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان، فلما رآهم القوم؛ هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم؛ فتشاور القوم فيهم؛ فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة؛ ليدخلن الحرم؛ فليمتنعن به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام؛ فتردد القوم؛ فهابوا الإقدام عليهم؛ ثم شجُعوا عليهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم؛ فرمى واقد بن عبد الله التميمى عمرو بن الحضرمي بسهم؛ فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله؛ فأعجزهم، وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة

وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش: أن عبد الله بن جحش قال لأصحابه: إن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمس ما غنمتم وذلك قبل أن يفرض الخمس من الغنائم؛ فعزل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمس العير، وقسم سائرها على أصحابه؛  فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام؛ فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا؛ فلما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك سُقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا وعنفهم المسلمون فيما صنعوا وقالوا لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به، وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال، وقالت قريش: قد استحل محمَّد وأصحابه الشهر الحرام؛ فسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال؛ فقال من يرد عليهم من المسلمين ممّن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في جمادى؛ فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ على رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}.

فلما نزل القرآن بهذا الأمر وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العير والأسيرين. [3]

الدروس والعبر:

1- أبو عبيدة رضي الله عنه سمع وأطاع ولكنه بكى حرصا منه على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتأمل حرارة الشوق التي أبكت أبا عبيدة، وتصور حبه لملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي جعلته يشفق عليه ويبقيه جواره؛ ليبعث بطلًا آخر.

2-جاء في هذا الخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لأمير السرية كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، وهذا مثل لتطبيق مبدأ مهم من مبادئ الحرب وهو إخفاء الخطط الحربية ومنها خط السير حتى يكون الجيش في أمان من كيد الأعداء؛ فالمدينة كانت آن ذاك تضم اليهود والوثنيين ومن المتوقع: أن يسارع هؤلاء إلى إخبار أهل مكة بخط سير تلك السرية الموجهة ضدهم؛ فلما سار أفراد السرية وهم أنفسهم لا يعلمون اتجاههم؛ أصبح النبي صلى الله عليه وسلم آمنا من انكشاف الهدف المقصود.

3-موقف أولئك الصحابة الذين سمعوا وأطاعوا جميعا وساروا إلى منطقة أعدائهم وتجاوزوها حتى كانوا من ورائهم وهذا شاهد على قوة إيمان الصحابة رضي الله عنهم واستهانتهم بأنفسهم في سبيل الله تعالى.

4-التشويه الإعلامي منذ القدم؛ ففي هذا الخبر عبرة للمسلمين بما قام به المشركون من تشويه إعلامي خطير لسمعة المسلمين حيث شهروا بهم فيما جرى من أصحاب تلك السرية من القتل وأخذ الأموال والسبي في الشهر الحرام وقد كان ذلك في آخر يوم من شهر رجب... والكفار عادة يغتنمون كل فرصة لتشويه سمعة المسلمين فحينما ظفر كفار مكة بهذه المخالفة التي تعني انتهاكا لأمر يقدسه العرب اغتنموا ذلك للتشهير بالمسلمين وقد طمعوا من خلال هذا الاتهام في أن يضعفوا من مكانة المسلمين وأن ينفروا الناس من قبول دعوة الإسلام ولقد حصل التساؤل من المسلمين فيما صنع أصحاب تلك  السرية ولاموا إخوانهم على ما حدث ونزل القرآن في بيان هذا الأمر وفي الرد على مقاتلة المشركين وذلك في قوله تعالى "يسئلونك ن الشهر الحرام قتال فيه....الآية"

5- كيل المشركين بمكيالين في هذه القصة؛ قال المباركفوري: فقد صرح هذا الوحي بأن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها؛ فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام، واضطهاد أهله، ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر سلب أموالهم وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة؛ فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟ لا جرم أن الدعاية التي أخذ ينشرها المشركون دعاية تبتني على وقاحة ودعارة.

6- في هذا الخبر مثل من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على جنود المسلمين حيث أجل فداء الأسيرين من المشركين حتى عودة ذينك الصاحبين اللذين تخلفا عن سرية المسلمين وهدد بقتل أسيري المشركين فيما لو قتلوا ذينك الصحابيين وفي هذا ضمان لسلامتهما حيث إنه من المظنون بكفار مكة أن يقتلوا الصحابيين لو ظفروا بهما.[4]

7- براءة الشريعة من الأخطاء الفردية التي لم يؤمر بها الأشخاص؛ فسواء قتل ذلك المشرك في جمادى أو في رجب أو في رمضان؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك إنما هي حماسة المهاجرين المقهورين المطرودين من ديارهم وأموالهم ولا ذنب لهم سوى أن يقولوا لا إله إلا الله لم يتمالكوا أنفسهم -وهم بشر- عندما رأوا أموالهم التي غصبتها قريش واغتصبتها تسيل أمامهم تجارةً تنمو بين أيدي المشركين وهم الحفاة الذين تشققت أقدامهم من العوز والفقر، وأضناهم الجوع والتعب.

فتأمل حال سعد وعتبة وهما ينطلقان على جملٍ واحد يركب هذا مرة وهذا مرة أما الآن؛ فلا جمل لهما لقد ند وهرب وهما يركضان على أقدامهما المتشققة خلفه يذرعان بطون الأودية والشعاب ولا أحد غير الله يعلم ما سيحدث لهما ما هو موقف أي إنسان حافي القدمين يبحث عن جمل ثم يرى جماله المسلوبة منه تتقاطر بالمال بينما تتقاطر قدماه بالدماء؟! ما هو موقف من يرى حقه من اللباس والطعام والشراب يتجه نحو من؛ نحو خشبةٍ ملقاةٍ على ظهرِ الكعبة أو نحو كاهن من سدنة تلك الأصنام لا يعرف لله قدرًا ولا للتوحيد منزلةً! ما هو شعور سعد المشرد الفقير الذي يصف الأجواء التي عاشها في مثل تلك المهمات الصعبة فيقول: إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله  وكنا نغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وما لنا طعام إلا ورق الشّجر حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ما له خلط[5].

إن رجلًا لا يجد سوى ورق الشجر لمعذور أن ينهب ما يسد به رمقه ويدفع به الموت عنه  فكيف إذا كانت تلك الأموال أمواله وأموال أصحابه.[6]

8- العدل والإنصاف؛ قال ابن القيم: والمقصود: أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام، بل أخبر: أنه كبير وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام، فهم أحق بالذم والعيب والعقوبة، لا سيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات، والهجرة مع رسوله، وإيثار ما عند الله، فهم كما قيل:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع

فكيف يقاس ببغيض عدو جاء بكل قبيح، ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن.[7]

وبعد ذلك أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراح الأسيرين، وأدى دية المقتول إلى أوليائه. [8]

10- صحة الرواية بالمناولة: قال البخاري في صحيحه: واحتج بعض أهل الحجاز في المناولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث كتب لأمير السرية كتابا وقال: "لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا"؛ فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس، وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.[9]

والحمد لله رب العالمين. 



[1] إنارة الدجى (39).

[2]  الصب هو المحب المشتاق الذي صار حبه أقوى من العلاقة وحاله صبابة، وهو رقة الشوق وحرارته وذلك لانصباب قلبه إلى المحبوب كما ينصب الماء الجاري والماء ينصب من الجبل أي: ينحدر، فلما كان في انحداره يتحرك حركة لا يرده شيء سميت حركة الصب: صبابة. مجموع الفتاوى (5/ 572).

[3] هذا سياق الدكتور أكرم العمري في السير النبوية الصحيحة بتصرف.

 والقصة أخرجها الطبراني (1670) من طريق سليمان التيمي عن الحضرمي -هو ابن لاحق وهو اسم بلفظ النسب ثقة - عن أبي السوار العدوي -هو حسان بن حريث على الراجح ثقة أيضا عن جندب بن عبد الله...به.

وهذا إسناده حسن، قال ابن حجر: وهذا سنده حسن وقد علق البخاري طرفا منه في كتاب العلم من صحيحه.  العجاب (1/ 538) وقال الهيثمي: ورجاله ثقات. مجمع الزوائد (6/ 198).

وأخرجه الطبري في التفسير(4/302) من طريق ابن سحاق عن عروة بن الزبير مرسلا.

قال ابن حجر: وَهُوَ مُرْسل جيد قوي الْإِسْنَاد وَقد صرح فِيهِ ابْن إِسْحَاق بِالسَّمَاع، وَله شَاهد جيد مُتَّصِل من حَدِيث أبي السوار الْعَدوي عَن جُنْدُب بن عبد الله البَجلِيّ  ثم ذكر هذا الحديث. تغليق التعليق (2/ 76)

 وصححه السيوطي في الدر المنثور.

وقال الأرنؤوط: فبمجموع هذه الطرق يكون صحيحا. هامش سير أعلام النبلاء (7/ 42).

 

[4] التاريخ الإسلامي مواقف وعبر (1/383)، والرحيق المختوم (181).

[5] البخاري (3728).

[6] السيرة النبوية للعمري (2/ 27).

[7] الأساس (1/ 429)، وزاد المعاد (3/ 152).

[8] الرحيق المختوم (ص: 181).

[9] صحيح البخاري (1/ 23).