نظرات في زواج التحليل (4)
✍️ كتبه: محمد عبد العزيز
حكم زواج التحليل
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1]
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فهذه هي المقالة الرابعة والأخيرة في حكم زواج التحليل.
وقد سبق في المقالة الثالثة بيان مسألتين:
الأولى: نقل إجماع الصحابة على بطلان زواج التحليل بجميع صوره، قال ابن تيمية في مختصر الفتاوى المصرية (ص 424): «نكاح المحلل حرام بإجماع الصحابة: عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم رضي الله عنهم».
الثانية: نقل الإجماع على بطلان التحليل في ثلاث صور، قال ابن قدامة في المغني (10 / 49): «نكاح المحلل حرام باطل، في قول عامة أهل العلم؛ منهم: الحسن، والنخعي، وقتادة، ومالك، والليث، والثوري، وابن المبارك، والشافعي.
وسواء قال:
_ زوجْتُكها إلى أن تطأها.
_ أو شرط أنه إذا أحلها فلا نكاح بينهما.
_ أو أنه إذا أحلها للأول طلقها».
على أنه ينبغي ملاحظة أن من يصحح زواج التحليل في بعض صوره ينكر ثبوت الإجماعين، وأهم الصور المقصودة في نكاح التحليل قد سقناها في المقال السابق، وسأقتصر هنا منها على ثلاث صور اختصارًا، وهي:
الصورة الأولى: أن يشترط الزوج المحلل في صلب العقد على نفسه لفظًا مع أحد الزوجين أو ولي المرأة أنه إن دخل بالمرأة دخولاً صحيحًا أن يطلقها.
وقد اختلف أهل العلم في هذه الصورة على ثلاثة أقوال:
الأول: بطلان هذا العقد، وهو قول الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وهو قول أبي يوسف من الحنفية.
[ينظر: الإشراف على نكت مسائل الخلاف، للقاضي عبد الوهاب (2 / 756)، والتوضيح في شرح المختصر، لخليل (4 / 42)، مواهب الجليل، للحطاب (3 / 469)، والأم، للشافعي (5 / 86)، والمهذب، للشيرازي (2 / 447)، وبحر المذهب، للروياني (9 / 324)، والمغني، لابن قدامة (7 / 574)، والشرح الكبير على متن المقنع، لأبي الفرج بن قدامة (1 / 218)، وبدائع الصنائع، للكاساني (3 / 187)].
وقد سبقت أدلة هذا القول في المقال الثالث، فارجع إليها.
الثاني: صحة العقد وبطلان الشرط، فإن طلقها _ الذي شرط التحليل _ بعدما وطئها حلت للأول لوجود الدخول في نكاح صحيح، إذ النكاح لا يبطل بالشرط، وإليه ذهب الحنفية، وهو أحد قولي القديم للشافعي، وهو رواية عن أحمد.
[ينظر: مختصر القدوري (9 / 4604)، والبناية (5 / 480)، العناية شرح الهداية، للبابرتي (4 / 182)، والمهذب، للشيرازي (2 / 447)، وبحر المذهب، للروياني (9 / 324)، والإنصاف، للمرداوي (20 / 406)، والمحلى، لابن حزم (9 / 422)، التمهيد، لابن عبد البر (13 / 233)]
وقد استدلوا على ذلك بأدلة منها:
1 ـ قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
قال الكاساني في بدائع الصنائع (3 / 188): «وعمومات النكاح تقتضي الجواز من غير فصل بين ما إذا شرط فيه الإحلال أو لا فكان النكاح بهذا الشرط نكاحًا صحيحًا فيدخل تحت قوله تعالى {حتى تنكح زوجا غيره} فتنتهي الحرمة عند وجوده.
إلا أنه كره النكاح بهذا الشرط لغيره، وهو أنه شرط ينافي المقصود من النكاح، وهو السكن، والتوالد، والتعفف؛ لأن ذلك يقف على البقاء، والدوام على النكاح».
وهذا فيه كبير نظر: لأن القائلين بفساد النكاح لا يعتدون به نكاحًا شرعيًّا أصلاً وقد ورد لعن صاحبه، وتسميته تيسًا مستعارًا، وكذا لمخالفته مقاصد النكاح في الشريعة، فقصد المحلل المباشر لهذا النكاح الفراق والطلاق دون الإبقاء.
2 ـ قوله: قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله المحلل، والمحلل له».
ووجه الدلالة فيه عندهم: تسمية النبي صلى الله عليه وسلم له محللاً، قال البدر العيني في البناية (5 / 481): «لما سماه محللاً دل على صحة النكاح؛ لأن المحلل هو المثبت للحل، فلو كان فاسدًا لما سماه محللاً».
وفي قولهم هذا نظر: فيقال: إنما سماه محللاً، وإن كان لم يحلل شرعًا؛ لأنه يعتقده ويطلب الحل منه، وطلب الحل من طريقه المشروع لا يستوجب اللعن.
الثالث: صحة العقد وبطلان الشرط، لكن لا يترتب عليه صحة رجوع المرأة إلى مطلقها الذي بانت منه؛ لأنه استعجل ما أخره الشرع، وهو مذهب محمد بن الحسن من الحنفية.
[ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني (3 / 187)، والعناية، للبابرتي (4 / 182)].
الصورة الثانية: أن يشترط الزوج المحلل قبل العقد على نفسه لفظًا مع أحد الزوجين أو ولي المرأة أنه إن دخل بالمرأة دخولاً صحيحًا أن يطلقها.
والفرق بين الصورة السابقة وهذه الصورة أن الصورة السابقة الشرط فيها في صلب العقد، وفي هذه الصورة الشرط سابق للعقد ولم يذكر في صلبه.
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
الأول: بطلان العقد، وهو مذهب المالكية، وصحيح مذهب الحنابلة؛ لأنه لا فرق بين مقارنة الشرط للعقد، وسبقه له عرفًا.
الثاني: صحة العقد وترتب آثاره عليه، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، والظاهرية؛ لأن الشرط المتقدم على العقد غير مؤثر.
[المراجع السابقة بالإضافة إلى البيان في مذهب الإمام الشافعي، للعمراني (9 / 279)، وبحر المذهب، للروياني(9/ 325)]
وقد استدلوا على ذلك بأدلة:
منها:
1 ـ عن ابن سيرين: «أن رجلاً من أهل المدينة طلق امرأته ثلاثًا، وندم وبلغ ذلك منه ما شاء الله.
فقيل له: انظر رجلاً يحلها لك، وكان في المدينة رجل من أهل البادية له حسب أقحم إلى المدينة، وكان محتاجًا ليس له شيء يتوارى به إلا رقعتين: رقعة يواري بها فرجه، ورقعة يواري بها دبره، فأرسلوا إليه.
فقالوا له: هل لك أن نزوجك امرأة فتدخل عليها، فتكشف عنها خمارها ثم تطلقها ونجعل لك على ذلك جعلاً؟
قال: نعم.
فزوجوه فدخل عليها، وهو شاب صحيح الحسب، فلما دخل على المرأة فأصابها فأعجبها.
فقالت له: أعندك خبر؟
قال: نعم، هو حيث تحبين، جعله الله فداءها.
قالت: فانظر لا تطلقني بشيء، فإن عمر لن يكرهك على طلاقي.
فلما أصبح لم يكد أن يفتح الباب حتى كادوا أن يكسروه، فلما دخلوا عليه.
قالوا: طلق.
قال: الأمر إلى فلانة.
قال: فقالوا لها: قولي له أن يطلقك.
قالت: إني أكره ألا يزال يدخل عليَّ.
فارتفعوا إلى عمر بن الخطاب فأخبروه.
فقال له: إن طلقتها لأفعلن بك. [يعني: إن طلقتها]
ورفع يديه، وقال: اللهم أنت رزقت ذا الرقعتين إذ بخل عليه عمر».
[أخرجه سعيد بن منصور (1999)، وعبد الرزاق (11528)، والبيهقي في الكبرى (14197)، وفي المعرفة (14124)]
والجواب: أنه حديث ضعيف، منقطع، لا حجة فيه على قولهم، قال ابن كثير في مسند الفاروق (1 / 403): «قلت: وابن سيرين مع هذا لم يسمع من عمر».
2 ـ أن ما يسبق العقد حديث نفس، والشرع قد عفا عنه، لحديث أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم -، قال: «إن الله تجاوز لأمتي عما لم تتكلم به أو تعمل به، وبما حدثت به أنفسها». [أخرجه البخاري (2528)، ومسلم (127)]
والجواب أن ما يجري في النفس على خمس مراتب:
الأولى: الهاجس: وهو ما يلقى فيها.
الثانية: الخاطر: وهو ما يجري فيه.
الثالثة: حديث النفس: وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا؟
الرابعة: الهم: وهو ترجيح قصد الفعل.
الخامسة: العزم: وهو قوة ذلك القصد والجزم به.
[ينظر: الأشباه والنظائر، للسيوطي (ص 33)]
فأين حديث النفس من شرط قد اتفق عليه الطرفان قبل العقد، وعده الناس في عرفهم شرطًا.
الصورة الثالثة: أن يتزوج الزوج المحلل المرأة ليحلها لزوجها بدون اشتراط ولا تصريح، لكن يعلم من حاله وعلاقته بالزوجين أو أحدهما أنه يريد ذلك، فينزل الحال منزلة التواطؤ.
وقد اختلف أهل في هذه المسألة على قولين:
الأول: بطلان العقد، وهو مذهب المالكية، وصحيح مذهب الحنابلة؛ لأن المعروف كالمشروط.
الثاني: صحة العقد وترتب آثاره عليه، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، والظاهرية.
[ينظر: المراجع السابقة في المذاهب]
سبب الخلاف في المسألة:
مأخذ الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى أصل مهم وهو اعتبار المقاصد في العقود، وقد اختلف أهل العلم في اعتبارها على قولين:
الأول: اعتبار مقاصد المكلفين في العقود، ولو خالفت الظاهر من القول أو العمل.
الثاني: عدم اعتبار مقاصد المكلفين في العقود، لو خالفت الظاهر من القول أو العمل أخذًا بالظاهر وإعمالاً له.
وقد اتفق أهل المذهبين على أصلين:
1 ـ اعتبار المقاصد في صحة العبادات.
2 ـ أن المقاصد معتبرة في ترتيب الثواب والعقاب الأخروي.
فمن اعتبر المقاصد لصحة العقود قال:
إن تصرفات المكلفين القولية والعملية تناط أحكامها الشرعية التي تترتب عليها بمقصده الذي يقصده منها، وليس بظاهر العمل أو القول، وهو مذهب المالكية والحنابلة، وهو ظاهر مذهب الصحابة، ولذا قالوا بعدم صحة العقود التالية: بيع العينة (أي البيع الصوري المتخذ وسيلة للربا) ، وبيع العنب لعاصر الخمر، وبيع السلاح في الفتنة الداخلية، أو لمن يقاتل به المسلمين، أو لقطاع الطريق المحاربين، ومثله بيع أدوات القمار، وبيع دار للدعارة، أو للقمار، وبيع الخشب لمن يتخذ منه آلات الملاهي، والإجارة على حمل الخمر لمن يشربها، ونحو ذلك، فهؤلاء قالوا: ببطلان زواج التحليل بجميع صوره اعتبارًا لقصد المحلل.
وتعليل ذلك: أن هذه العقود: إما عقود على معصية الله، أو عقود على وسيلة لمعصية ففيها إعانة عليها، وهذا يخالف قصد الشارع.
وقد قال الشاطبي في الموافقات (3 / 23): «قصد الشارع من المكلف: أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في التشريع».
فلو أوقع المكلف سببًا للحكم الشرعي كنكاح التحليل الذي لعن فاعله ليحل مطلقة غيره التي بانت منه بينونة كبرى غير قاصد بزواجه المقاصد الشرعية، كان ما أوقعه من السبب ¬¬¬_ وهو العقد على ذلك القصد _ غير معتد به شرعًا.
ولا يعد الناس من تزوج لتحليل المرأة لزوجها زوجًا حقيقة؛ لأن صورة الزواج خالية عن حقيقة النكاح ومقصوده، وإنما يسمونه محللاً ومتحيلاً، ولذا سماه الشرع: تيسًا مستعارًا.
ومن لم يعتبر المقاصد لصحة العقود قال:
إن تصرفات المكلف القولية والعملية تناط أحكامها الشرعية التي تترتب عليها بصورتها الظاهرة التي يوقعها أسبابًا للأحكام الشرعية، فالعقد يكون صحيحًا بتحقق أركانه، واجتماع شروطه، وانتفاء موانعه الظاهرة، ولو كان مقصد المكلف غير مشروع، ولذا قالوا بصحة جميع العقود السابقة، وإن ترتب عن القصد الإثم أو الكراهة، فقالوا: بصحة بيع العينة، وبيع العنب لعاصر الخمر، وبيع السلاح في الفتنة الداخلية، أو لمن يقاتل به المسلمين ... وقالوا: بصحة زواج التحليل.
فهؤلاء لا يعتبرون مقاصد المكلفين إلا إذا كانت داخلة في صيغة العقد، ولا يعتد به إذا لم تتضمنه صيغة العقد.
[ينظر: الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي (1 / 216 _ 218)]
فإذا ضبط هذه القاعدة وتبين لك وجه الحق فيها تبين لك وجه الخلاف في الفرعيات المبنية عليها، وتبين لك الصواب في أقوال الناظرين.
الراجح في المسألة:
وأما القول الراجح في المسألة فهو بطلان زواج التحليل، وسواء في ذلك إن اشترط عليه في العقد، أو كان سابقًا له، أو إذا نواه الزوج المحلل بغير تواطئ مع أحد الزوجين للنصوص الواردة في المسألة، وللإجماع المنقول عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، واعتبارًا لمقاصد المكلفين.
قال أبو عمر ابن عبد البر في الاستذكار ـ باختصار ـ (5 / 450):
«معلوم أن:
• إرادة المرأة المطلقة للتحليل لا معنى لها إذا لم يجامعها الرجل على ذلك؛ لأن الطلاق ليس بيدها فوجب ألا تقدح إرادتها في عقد النكاح.
• وكذلك المطلق أحرى ألا يراعى لأنه لا مدخل له في إمساك الزوج الثاني ولا في طلاقه إذا خالفه في ذلك.
• فلم تبق إلا إرادة الزوج الناكح.
• فإن ظهر ذلك بالشرط علم أنه محلل دخل تحت اللعنة المنصوص عليها في الحديث، ولا فائدة للعنة إلا إفساد النكاح، والتحذير منه والمنع يكون حينئذٍ في حكم نكاح المتعة كما قال الشافعي، ويكون محللاً فيفسد نكاحه، وها هنا يكون إجماعًا من المشدد والمرخص، وهو اليقين، إن شاء الله تعالى ...
ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له كلعنه آكل الربا وموكله ولا ينعقد بشيء من ذلك ويفسخ أبدًا، وبالله التوفيق».
هذا ما يسره الله تعالى في هذه المسألة فإن يكن صوابًا فالحمد لله وحده، وإن تكن الأخرى فأستغفر الله.
الحلقة الأولى - المقصد من عقد الزواج