طباعة
المجموعة: ربيع الأول 1442هـ
الزيارات: 1434

تتجارى بهم الأهواء

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وصلاة وسلامًا على نبيه المصطفى ورسوله المجتبى محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد:

فلعل من نافلة القول أن يقال: يجب على أهل العلم أن ينصحوا لله تعالى، وأن يقولوا بالحق بضوابطه الشرعية، قال تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169].

وقد يظن كثير من الناس أن قول الحق هو تتبع المثالب، وجمع المعايب، وتصيد الأخطاء، وإعلان مواطن الزلل، ونشر الأخطاء، وتثوير الناس، ونشر الفرقة.

وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «إذا سمعتم الرجل يقول: هلك الناس، فهو أهلكُهُم». أخرجه مسلم (2623) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

قال الخطابي في غريب الحديث (1 /536): «يكون ذلك في الرجل يولع بذكر الناس، وإحصاء عيوبهم، وعد مساويهم، فهو لا يزال يقول: هلك الناس، وفسدت نياتهم، وقلت أماناتهم، ويذهب بنفسه عجبًا، ويرى لها على الناس فضلاً، يقول: فهذا بما يناله في ذلك من الإثم أشد هلاكًا وأعظم وزرًا.»

وقد يظن آخرون أن جمع الكلمة، وتأليف القلوب، ونشر الفأل، والدعوة إلى الصبر من الخور والضعف عن كلمة الحق، بل وقد يعده بعضهم نفاقًا.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: «إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» أخرجه البخاري (3792)، ومسلم (1061).

وقد يظن آخرون أن بيان حكم الله تعالى في قضايا الأمة ونوازلها والصدع به من تفريق الكلمة.

وقد قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] فأخذ الله الميثاق عليهم أن يبينوا الحق فلا يضيع في الأمة، وعابهم باستدباره وراء ظهورهم وكتمانه عن الأمة.

لماذا قدمت بهذه المقدمة الطويلة؟

قدمت بها لأني رأيت فئامًا من الناس قد انقسموا إلى أنحاء متفرقة فمنهم:

ـ من أولع بجمع زلات أهل العلم وأخطائهم وأغلاطهم فطار به في كل أفق ينشرها، ولم يقبل منهم عذرًا، ولم يفرق بين محسنهم الذي غلب عليه الصواب في القول والعمل، ومسيئهم الذي غلب عليه الخطأ والزلل، وبين من أصله البدعة ومن أصله السنة، بل راح يبحث عن كلمة من هنا أو هناك ليسقطهم.

وقد قال الحافظ ابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص 28): «واعلم يا أخي – وفقنا الله لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه: أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لنشر العلم خلق ذميم»

ـ ومنهم من أولع بجمع أخطاء الحكام وزلاتهم وأغلاطهم وراحوا يذيعونها في الأفاق ويشنعون عليهم بغية تفريق الكلمة وكسر السلطان وإزالة مهابته من القلوب، ولم يفرقوا بين الأمر بطاعته في المعروف دون المنكر، وبين دعوى الخوارج والبغاة الداعين للخروج على حكام الجور.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع.

قالوا: أفلا نقاتلهم؟

قال: لا، ما صلوا» أخرجه مسلم (1854).

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الناس مع حكامهم إذا رؤوا منهم المنكر على ثلاثة أصناف:

الأول: من رأى المنكر فلم يستطع أن ينكره بلسانه، فكرهه بقلبه ولم يقرهم عليه، فهذا برئ من إثمهم الذي اقترفوه.

قال القاضي عياض في إكمال المعلم (6 /264): «المعاقبة على السكوت على المنكر إنما هو لمن رضيه، وأعان فيه بقول أو فعل أو متابعة، أو كان يقدر على تغييره فتركه.

فأما مع عدم القدرة فبالقلب وعدم الرضا به، كما فسره بعد في الحديث الآخر؛ أي: كره بقلبه وأنكر بقلبه»

الثاني: من رأى منهم المنكر فأنكره بلسانه وهذا له حالان:

الحال الأول: أن يكون عند الحاكم بالموعظة الحسنة سرًّا دون تهويل وإزالة لمهابته من القلوب، وقد قال الله لموسى وهارون صلى الله وسلم عليهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43، 44]

وعن طارق بن شهاب - رضي الله عنه - «أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وضع رجله في الغرز: أي الجهاد أفضل؟

قال: كلمة حق عند سلطان جائر». أخرجه النسائي (4209).

الحال الثاني: أن يكون إنكار المنكر في العلن والجهر ليتقيه الناس ولا يفعلونه، فهذا من الميثاق الذي أخذه الله على العلماء.

لكن يكون ذلك دون تعيين لفاعله، ودون تشهير بالسلطان فتسقط مهابته في النفوس، فعن زياد بن كسيب العدوي - رحمه الله -: قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر، وهو يخطب، وعليه ثياب رقاق، فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق ويعظ.

فقال أبو بكرة: اسكت، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: «من أهان السلطان أهانه الله» أخرجه الترمذي (2225)، وقال: حديث حسن غريب.

قال القاضي عياض في إكمال المعلم (6 /264): «وقوله: "فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم": أي: من معاقبة الله له على الإقرار على المنكر، وبرئ بكراهيته من الرضا والمتابعة، وفيه حجة على لزوم قول الحق وإنكار المنكر».

الثالث: من رأى المنكر فرضي به، وتابع عليه، وربما برر له؛ فيلبس الحق بالباطل.

قال النووي في شرح مسلم (12 /243): «ولكن الإثم والعقوبة على من رضي وتابع».

وهؤلاء ثلاثة أقسام:

الأول: من رأى الإثم أو علم به فرضيه بقلبه، وإن لم يفعله.

الثاني: من رأى المنكر أو علم به فرضيه بقلبه، وتابع عليه بعمله.

الثالث: من رأى المنكر أو علم به فرضيه بقلبه، وتابع عليه بعمله، وربما برر له، إما بجهل، أو بالكذب على الله، فلبس الحق بالباطل فهؤلاء أشدهم إثمًا.

قال تعالى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168، 169]

وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].

وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن منابذة السلطان بالسيف إذا أظهر المنكر، وهذا السؤال يدل على أمرين:

الأول: نزع اليد من الطاعة.

الثاني: السعي في خلعهم بالسيف.

فأجاب صلى الله عليه وسلم بالنفي ما أقاموا في الأمة الصلاة، فدل الأمة على علامة ظاهرة.

قال في تحفة الأحوذي (6 /544): «أي: لا تقاتلوهم ما صلوا، إنما منع عن مقاتلتهم ما داموا يقيمون الصلاة التي هي عنوان الإسلام حذرًا من هيج الفتن واختلاف الكلمة وغير ذلك مما يكون أشد نكاية من احتمال نكرهم والمصابرة على ما ينكرون منهم».

هذه الكلمات نصيحة من مشفق، فما كان فيها من صواب فمن الله، واستغفر الله من الأخرى.