الإيمان بالغيب والتفكير العقلى -1-

للأستاذ عنتر أحمد حشاد

مفتش بوزارة التربية والتعليم

الإيمان بالغيب من أول صفات المتقين المهتدين، كما جاء في قول اللَّه عز وجل: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}.

والمراد بالإيمان بالغيب: التصديق والإذعان بما غاب عن الحواس الظاهرة التي قام على وجوده الدليل الصحيح.

والناس إزاء ذلك فريقان: فريق مادى حسى لا يؤمن ولا يصدق إلا بما أدركه حسه الظاهر، يقولون (إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلغ، إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، وما نخن بمبعوثين) وفريق غير مادى يؤمن بما أدركه حسه الظاهر، وبما أدركه وجدانه، وأرشده إليه عقله بالبرهان.

وأساس الإسلام، وأساس كل دين هو الإيمان بالغيب، ومن لا يؤمن بالغيب لا يؤمن باللَّه، ولا بملائكته، ولا باليوم الآخر، ولا بالقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره؛ لأن هذا كله غيب لا تدركه الحواس الظاهرة، ولكن يدركه العقل بما قام عليه من الدلائل الصحيحة، ومن لا يؤمن بالغيب لا يمكن أن يهتدى بالقرآن، ولا بأى رسول.

وفي إطار هذين الإتجاهيين نجد إختلافًا كبيرًا في إدراك الحياة، وفرقًا واسعا في تفسيروتعليل ظواهرها الطبيعية والاجتماعية.

ومن ذلك ما نراه في أيامنا هذه من تفسير وتعليل الهزيمة والنكسة من جهة، وتفسير وتعليل ما أحرزناه من نصر في المعركة من جهة أخرى.

فالماديون - وقليل ما هم ولله الحمد - يرون أن نكسة 1967م مردها فقط، إلى مؤامرات الصهيونية المتعاونة مع الامبريالية، والأخطاء (يقصدون الخطاء المادية وحدها، دون الخطاء الدينية والخلقية، بدليل نفي الصلة بين الهزيمة والبعد عن الله) التي ارتكبناها نحن أنفسنا قبل حرب 1967م، وأثنائها، ويرون أن لاصلة ألبتة لهذه الهزيمة ببعدنا عن اللَّه وتقواه، كما يقتصرون في تفسير النصر في أكتوبر 1973م وتعليله على الأعداء الصامت الدءوب ليوم المعركة، وتلك التدريبات الشاقة العنيفة، وتلك القدرة الفائقة على استخدام أحدث الأسلحة، وذلك التخطيط الذي أصبح موضوعا للدراسة في المعاهد العسكرية والاستراتيجية، والرغبة الجارفة في تحرير الأرض، ومسح العار وفي اقتصارهم على هذا التفسير والتفكير ينكرون تعليل النصر بالأمور الغيبية، بأن النصر من عند اللَّه، وبأن لله ملائكة وجنودا يؤيد بهم من يشاء من عباده المتقين، يزعمون أن هذا التعليل تفكير خرافى وهمى فيه إقلال من شأن الجهود التي بذلت، والبطولات التي ظهرت، كما يزعمون أن في ربط حاضرنا بماضينا وقد انقطعت صلتنا به اغترابا عن حاضرنا، وينكرون علنا هذا الربط وهذا الاغتراب.

ولا شك أن هذه النظرة نظرة سطحية عابرة، تنخدع بظواهرها الأمور، وتغتر بصورها، فاللَّه تعالى، وهو الشارع الحكيم، خالق الإنسان والكون كله، مانح لنا القدرة والقوة أعلم بما يصلح الإنسان، وهو الذي أرشدنا إلى وسائل النصر، وبين لنا أسبابه، أمرنا بأن نعد العدة للأعداء، سواء في ذلك القوة المادية، والقوة المعنوية، أمرنا بالثبات عند لقاء العدو، وذكر اللَّه عز وجل، وتقواه زطاعته، والتوكل عليه، والتواضع، والتعاون والاتحاد والنظام، والصبر والمصابرة والمرابطة، إلى جانب أن نعد لهم ما استطعنا من قوة مادية ونهانا عن الفرار، وعن البطر والرياء وربط النصر بهذه الأسباب كلها مجتمعة فالإنسان في هذه الحياة، وفي كل ما يزاوله من أعمال في حاجة إلى قوتين: يباشر باحداهن عمله، ويقوى بالأخرى روحه المعنوية، فإن للروح المعنية قيمتها في العمل والانتاج، فإذا أتتجه الإنسان إلى ربه القوى القاهر، وتمثل عظمته ورحمته وجبروته زغضبه، كان ذلك أدعى إلى أن يقدم على ما يريد قوى النفس، ثابت العزم، غير متزلزل الإرادة، ثقة بأن يأوى إلى ركن شديد، فإن العقيدة القوية والإيمان باللَّه وملائكته يذكى النفوس، ويدفع أصحابها إلى معاقل المجد، إلى حيث العزة التي عبر عنها القرآن الكريم بقول اللَّه عز وجل: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}.

إن صاحب العقيدة ليرسل عقيدته في أقطار الدنيا وهو يهتف.

ولست أبالى بأن أُقتل مسلما ... على أى جنب كان في اللَّه مصرعى

إن صاحب العقيدة ليأتى بجلائل الأعمال، ويقتحم ميادين البطولة، وهو يرتل: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} ..

يقول اللَّه عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ. وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْوَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
ويقول سبحانه: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}.

الحديث موصول إن شاء اللَّه تعالى.