باب دراسات شرعية: أثر السياق في فهم النص (148) حجاب المرأة المسلمة (48)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبى بعده، وبعد: نستكمل الحديث عن أثر قرائن السياق على أدلة الحجاب، وقد قسمت أدلة الحجاب إلى ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى: أدلة القرآن. المجموعة الثانية: أدلة السنة. المجموعة الثالثة: الآثار عن الصحابة ومن بعدهم. وقد انتهيت بفضل الله تعالى من أدلة القرآن والسنة، والآثار عن الصحابة ومن بعدهم.

وقد وقفت على دليلين من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أضيفهما

إلى أدلة السنة، قبل ختام البحث.

(١) عن عقبة بن عامر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو ؟ قال: الحمو: الموت (متفق عليه) (الحمو: هم أقارب الزوج كأخيه وابن أخيه وابن أخته وعمه وأبناء عمه ونحوهم مما يحل للزوجة أن تتزوجه إن تكن متزوجة).

يقول الشيخ الشنقيطى مستدلا من الحديث: فهو دليل واضح على منع الدخول عليهن، وسؤالهن متاعا إلا من وراء حجاب، لأن من سألها متاعا لا من وراء حجاب فقد دخل عليها …. (انظر أضواء البيان ٦/ ٢٤٨ - ٢٤٩).

ويقول الشيخ البوطى: فلولا أن المرأة بمجموعها عورة بالنسبة للرجال الأجانب لما أطلق النبى صلى الله عليه وسلم النهى عن دخولهم عليهن (انظر إلى كل فتاة تؤمن بالله ص ٤١). القرائن حول الحديث:

١- بوب الإمام البخارى للحديث: باب لايخلون رجل بامرأة إلا ذومحرم والدخول على المغيبة.

٢-  فى صحيح مسلم باب: تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها.

٣-  بوّب ابن حبان: ذكر الزجر عن الدخول على النساء ولا سيما الحمو.

٤- بوّب البغوى فى شرح السنة: باب النهى عن أن يخلو الرجل بالمرأة الأجنبية. فالنبى صلى الله عليه وسلم ينهى الأقارب الذين ليسوا من محارم الزوجة على التأبيد أن يدخلوا عليها، وذلك من باب سد الذرائع خوفا من الوقوع فى الفاحشة إذا خلا الرجل بالمرأة. فليس في الحديث ما يدل على تغطية المرأة لوجهها أو عدم تغطيته.

(2) عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم لاتباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها (البخارى). استدل الشيخ التويجرى من الحديث على وجوب تغطية المرأة لوجهها، وقال عنه: دليل على احتجاب النساء عن الرجال الأجانب، وأنه لم يبق للرجال سبيل إلى معرفة الأجنبيات من النساء إلا من طريق الصفة - أى الوصف- أو الإغتفال (غفلة المرأة) ونحو ذلك، فدل ذلك على أن نظر الرجال إلى النساء غير المحارم ممتنع فى الغالب، من أجل احتجابهن عنهم، ولو كان السفور جائزا، لما كان الرجال يحتاجون إلى أن تنعت لهم الأجنبيات من النساء بل كانوا يستغنون بنظرهم إليهن، كما هو معروف فى البلدان التى فشا فيها التبرج والسفور (انظر الصارم المشهور ص ٩٥).

القرائن حول الحديث:

١- لاتباشر المرأة المرأة: هل النهى عن المباشرة فى الحديث، يحمل على وصف الوجه فقط أم يحمل على معنى أوسع من ذلك ؟. فلاشك أن المباشرة أوسع من النظر إلى الوجه فقط، بدليل القرائن التالية.

٢- عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لايباشر الرجل الرجل ولا المرأة المرأة (أخرجه ابن حبان وقال الألبانى صحيح لغيره فى التعليقات الحسان).

وقد استدل الإمام مالك من الحديث بعدم جواز تعرى النساء بين بعضهن البعض (انظر فتح البارى لابن رجب ٣/ ٣٦٥ - ٣٦٧).

٣-  حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: لاينظر الرجل إلى عورة الرجل ولاتنظر المرأة إلى عورة المرأة، ولايفضى الرجل إلى الرجل فى الثوب الواحد، ولاتفضى المرأة إلى المرأة فى الثوب الواحد (صحيح سنن الترمذى).

٤-  وقال ابن الجوزى: ولاتباشر المرأة المرأة: كأن المباشرة هاهنا مستعارة من التقاء البشرتين للنظر إلى البشرة. فتقديره: تنظر إلى بشرتها … (انظر كشف المشكل من حديث الصحيحين ١/ ٢٩٩).

٥-  لاتباشر المرأة المرأة فى الثوب الواحد (رواية النسائى).قال الحافظ ابن حجر مستدلا من الحديث: ومما تعم به البلوى ويتساهل فيه كثير من الناس الاجتماع فى الحمام، فيجب على من فيه أن يصون نظره ويده وغيرهما عن عورة غيره وأن يصون عورته عن بصر غيره (انظر فتح البارى لابن حجر ٩/ ٣٣٨ - ٣٣٩).

(خاتمة البحث)

وقد انتهيت بفضل الله تعالى مما وقفت عليه من الأدلة التي تتعلق بحجاب المرأة سواء من القرآن أو السنة أو الآثار الواردة عن الصحابة ومن وبعدهم، وقد تكلمت عن كل دليل وأثر من هذه الأدلة والآثار باستفاضة.

مذكرا بأنى في البحث أقصد السياق بمفهومه الواسع:

١- النصوص السابقة واللاحقة لما يراد وبيانه وتأويله، والنصوص الأخرى المتعلقة بالمسألة موضع البحث.

٢- مقاصد التشريع.

٣-  أسباب نزول الآيات، وأسباب ورود الحديث، وأحوال المخاطبين، وظروف القول …… إلى غير ذلك. وأن السياق - بمفهومه الشامل - يجعلنا ننظر إلى النصوص نظرة كلية مستوعبة فلا نأخذ نصا ونترك نصا، أو نأخذ نصا ونترك ما يحيط به من قرائن متعددة. فالسياق - كما يقول ابن القيم - وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط فى نظره وغالط فى مناظرته (انظر بدائع الفوائد ٤/ ١٠٩).

وقد قسمت أنواع السياق إلى قسمين كبيرين، هما: أولا: قرائن السياق الخاصة، التى تنقسم إلى

١- قرائن لفظية: متصلة بالنص، منفصلة عن النص

٢- قرائن غير لفظية (حالية)، متصلة بالخطاب، منفصلة عن الخطاب، أسباب نزول الآيات، أسباب ورود الأحاديث، بيئة الخطاب المحتملة فى عادات المخاطبين فى أقوالهم وأفعالهم ومعهودهم فى معانى الألفاظ …. وغير ذلك. ثانيا: قرائن السياق العامة: وهذه تنقسم إلى أقسام متعددة، منها ١- المقاصد الشرعية ٢- المصلحة المرسلة ٣- اعتبار المآلات ٤- الكليات العامة ٥- عدم التعارض بين النصوص …. إلى غير ذلك وقد قمت باستعمال هذه القرائن وغيرها فى ما وقفت عيه من الأدلة حول الحجاب، بعد أن قسمت الأدلة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الأدلة من القرآن.القسم الثانى: الأدلة من السنة. القسم الثالث: الأدلة من الآثار عن الصحابة ومن بعدهم. وبعد نهاية البحث ألخص ما توصلت إليه.

أولا: أدلة القرآن.:

١- قوله تعالى: (قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولايبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) (النور: ٣١).

الدليل فى الآية (إلا ماظهر منها) ليس قطعى الدلالة، بمعنى أنها ليست نصا قاطعا له معنى واحد محدد، لايسوغ الاختلاف فيه، ولذلك اختلف أهل العلم فى توجيه معناها.

٢- قوله تعالى: (والقواعد من النساء اللاتى لايرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم) (النور: ٦٠) الآية ليست نصا فى وجوب النقاب أو عدم وجوبه، وإنما هى موجهة بالأصل إلى القواعد من النساء اللواتى أذن الله تعالى لهن فى تخفيف بعض ثيابهن على أن لايكون بغرض التبرج والتزين وأن الاستعفاف خير لهن.

٣- قوله تعالى (يا نساء النبى لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض وقلن قولا معروفا، وقرن فى بيوتكن ولاتبرجن تبرج الجاهلية الأولى)(الأحزاب ٣٢، ٣٣). وإن كانت الآيات مسبوقة ومتبوعة بالخطاب لنساء النبى صلى الله عليه وسلم ويدخل فيها عموم النساء من باب أولى، لكن ليس فى الآيات دليل قطعى على وجوب ستر الوجه والكفين، بل هى دليل على الحجاب وعدم التبرج.

٤ - قوله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) (الأحزاب:٥٣). الآية تتوجه بالخطاب أصالة إلى أمهات المؤمنين مع وجوب الحجاب الكامل بما فى ذلك ستر الوجه والكفين، والإستدلال منها على وجوب ستر الوجه والكفين لغير أمهات المؤمنين غير مباشر (استنباطى) من باب القياس، بجامع العلة وهى طهارة القلوب، فيستدل بعموم العلة (طهارة القلوب) على عموم الحكم (تغطية الوجه والكفين وسائر الجسد)، ولم يسلم القياس هنا فقيل لاتلازم بين ستر الوجه وطهارة القلب، فطهارة القلب تتحقق بالتقوى وغض البصر والانتهاء عن ما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فالاستدلال من الآية بهذه العلة غير قطعى ومحل للنزاع.

وللحديث بقية والحمد لله رب العالمين.