تذكير الأخلاء بفوائد غزوة الأبواء

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق وخاتم الأنبياء وسيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد؛ فلقد حثنا الله تعالى على أن نتأسى برسوله صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) ولا شك أن مما يعين على حسن التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة سيرته وشمائله؛ فهي في كثير منها بيان عملي لنصوص القرآن والسنة ومن ثم نكتب في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نلتمس منها القدوة ونأخذ منها العبرة بعنوان "تذكير الأخلاء بفوائد غزوة الأبواء".

 سياق أحداث الغزوة

لم تكن هذه الغزة من الناحية العسكرية عرضة الذيل مترامية الأحداث، ومع ذلك فقد اشتملت على كثير من الفوائد التي تنفع المسلم؛ ولقد غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الشريفة غزوة الأبواء، ويقال لها: ودان، يريد قريشا وبني ضمرة، وهي أول غزوة غزاها بنفسه، وكانت في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مهاجره، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وخرج في المهاجرين خاصة يعترض عيرا لقريش، فلم يلق كيدا، وفي هذه الغزوة وادع مخشي بن عمرو الضمري وكان سيد بني ضمرة في زمانه على ألا يغزو بني ضمرة، ولا يغزوه، ولا أن يكثروا عليه جمعا، ولا يعينوا عليه عدوا، وكتب بينه وبينهم كتابا، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.[1]

وفي هذا الحدث مسائل

الأولى: في ذكر اسم هذه الغزوة؛ حيث إن لها اسمان:

 الأول: غزوة الأبواء؛ قال البخاري: قال: ابن إسحاق: " أول ما غزا النبي صلى الله عليه وسلم: الأبواء.[2]

والأبواء: الأبواء واد من أودية الحجاز التهامية، كثير المياه والزرع، يلتقي فيه واديا الفرع والقاحة فيتكون من التقائهما وادي الأبواء، كتكون وادي مر الظهران من التقاء النخلتين، وينحدر وادي الأبواء إلى البحر جاعلا أنقاض ودان على يساره، وثم طريق إلى هرشى، ويمر ببلدة مستورة ثم يبحر. ويسمى اليوم «وادي الخريبة» غير أن اسم الأبواء معروف لدى المثقفين، وسكانه: بنو محمد من بني عمرو، وبنو أيوب من البلادية من بني عمرو.[3]

الثاني: ودان: وهي قرية جامعة من أمهات القرى من عمل الفرع[4].

والأبواء وودان: مكانان متقاربان؛ قال ابن حجر: وليس بين ما وقع في "السيرة" وبين ما نقله البخاريّ عن ابن إسحاق اختلاف؛ لأن الأبواء ووَدّان مكانان متقاربان، بينهما ستة أميال، أو ثمانية، ولهذا وقع في حديث الصعب بن جَثّامة: وهو بالأبواء، أو بوَدّان[5].

الثانية: تاريخ الغزوة: كان خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الأبواء في صفر على رأس اثني عشر شهرًا من مهاجره.[6]  وقال المباركفوري: في صفر سنة 2 هـ الموافق أغسطس سنة 623م[7]

ومن العلماء من عدها في أحداث السنة الأولى كابن سيد الناس وابن جماعة [8] ومنهم من عدها في أحداث السنة الثانية كابن حبان.[9] ووقتها عند الكل واحد وبيان ذلك أنهم اختلفوا في طريقة العد فمن جعل أول السنة شهر ربيع جعلها في السنة الأولى ومن جعل أول السنة محرم جعلها في السنة الثانية.

الثالثة:  وهي أول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه؟

 قال ابن هشام: وهي أول غزوة غزاها. [10]

 وقال البخاري: قال: ابن إسحاق: " أول ما غزا النبي صلى الله عليه وسلم: الأبواء، ثم بواط، ثم العشيرة " قال موسى بن عقبة: أول غزوة غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني بنفسه - الأبواء.[11]

وعن زيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة،  وأنه  غزا معه سبع عشرة غزوة  وأن أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العسير أو العشير.[12]  وظاهره يخالف ما نقل عن أهل السير

والجمع من وجوه

الأول: أن تكون الغزوات التي قبل الأبواء خفيت على زيد لصغره.

الثاني: أن يكون قصد زيد أنها أول غزوة غزاها هو مع النبي صلى الله عليه وسلم.

الثالث: أن تكون غزوات صغيرة لم تشتهر، فإن من عد من الصحابة ذكر أعظمها.

الرابع: أن يقال: إن زيدا أخبر عما عنده، والله تعالى أعلم. [13]

الرابعة: الهدف من الغزوة

الوصول إلى ودّان لتهديد طريق قريش التجارية بين مكة والشام وذلك؛ لأن الحال بينهم كانت حالة حرب

والعمل على التحالف مع القبائل المسيطرة على هذه الطريق.[14]

الخامسة: الدروس والعبر:

-  متى شرع الجهاد:

شرع الجهاد في أوائل السنة الثانية للهجرة، ولعل من الحكمة في ذلك انشغال المسلمين في السنة الأولى بتنظيم أحوالهم الدينية والدنيوية كبنائهم المسجد النبوي، وأمور معايشهم، وطرق اكتسابهم وتنظيم أحوالهم السياسية؛ كعقد التآخي بينهم، وموادعتهم اليهود المساكنين لهم في المدينة، كي يأمنوا شرورهم، وذهب الأستاذ صالح الشامي إلى أن الإذن بالجهاد كان في أواخر السنة الأولى للهجرة.[15]

 - الفرق بين السرية والغزوة:

يطلق كتاب السير في الغالب على كل مجموعة من المسلمين خرج بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلقى عدوه غزوة، سواء حدث فيها قتال أو لم يحدث، وسواء كان عددها كبيراً أو صغيراً، ويطلق على كل مجموعة من المسلمين يرسلها النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعتراض عدو كلمة: سرية أو بعث، وقد يحدث فيها قتال وقد لا يحدث، وقد تكون لرصد أخبار عدوه أو غيره، وغالباً ما يكون عدد الذين يخرجون في السرايا قليلاً؛ لأن مهمتهم محددة في مناوشة العدو وإخافته وارباكه. [16].

- فيها خروجه صلى الله عليه وسلم ومخاطرته بنفسه الشريفة  حيث خرج مجاهدا في سبيل الله، وجلَدُه - صلى الله عليه وسلم - على أمر الله؛ فقد خرج في الصيف بشدة الحرّ لمسافة طويلة.

- مشروعية الاستخلاف

   فينبغي لكل أمير يترك موضع إمارته لحاجة ولمدة قد تطول أن يستخلف من يكون على الناس بعده، وأنه ينبغي أن يستخلف من تنتظم كلمة الناس عليه لسابقتة في الدين أو لشرفه في العشيرة.

قال الله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف/142].

 وهذا يعم جميع المستويات حتى الإدارات الصغيرة وتنزل إلى مستوى الأسرة؛ فإذا سافر الوالد أو ذهب بعيد يتخلف من أبناءه وذويه من يصلح لقيادة الأسرة حتى لا تتفكك وتنحل عراها عندما تفتقد الإدراة الصحيحة والتوجيه السليم والكلمة المسموعة المطاعة.

- فهم الصحابة أنه لا يجوز قصد المدنيين بالقتل ولذلك سألوا عن قتلهم دون قصد؛ عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة رضي الله عنهم، قال: مر بي النبي صلى الله عليه وسلم بالأبواء، أو بودان، وسئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين، فيصاب من نسائهم وذراريهم قال: "هم منهم"[17]

ففي سؤال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم  عن قتل المدنيين غير المحاربين من دون قصد  ما يدل على أنه  ثبت لديهم النهى عن قصد قتل المدنيين  غير المحاربين.[18]

- مشروعية التحالف العسكري والمعاهدات بين المسلمين وغيرهم من الأمم فأمتنا ليست منعزلة عن عالمها ولا تعلن الحرب على كل من خالفها، ويبدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهز هذه الفرصة في غزوة الأبواء؛ فعقد حلفا عسكرياً مع شيخ بني ضمرة؛ فقد كان موقع بلاده ذا قيمة عسكرية لا تقدر بثمن في الصراع بين الدولة الإسلامية الناشئة وقريش؛ ولذلك عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضمان حيدتهم، في حالة وقوع صدام مسلح بين المدينة وأهل مكة، وكانت خطته صلى الله عليه وسلم حتى وقعة بدر أن يزعج قوافل قريش بإرسال مجموعات صغيرة من المهاجرين، وخاصة أن هذه القوافل كانت غير مصحوبة بجيش يحميها، وهو أمر لم تفكر فيه قريش حتى تلك اللحظة.[19]

وهو حلف عدم اعتداء وفق المصطلح الحديث[20].

وقد دلت هذه الموادعة على أن مقتضيات السياسة الشرعية قد تدفع المسلمين إلى التحالف العسكري أو الاقتصادي أو التجاري، مع أي من الكتل القائمة، وأن التحالف السياسي له أصل في الشريعة، وضرورة يوجبها استهداف رفع الضرر الحاصل أو المرتقب[21]، وأن التحالف مبني على قاعدة رفع الضرر، والمصلحة المشتركة، وأن تكون لأصل الحلف غاية شرعية معلومة، وأن يكون للمسلمين في الحلف قرار ورأي، أما إذا كانوا أتباعًا ومنفذين كما

في بعض الأحلاف الحديثة؛ فهذا لا ينطبق عليه الأصل الشرعي، وعلى قيادة الأمة أن تستوعب هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حركته السياسية، وأن تفهم القاعدة الشرعية التي تقول: "لا ضرر ولا ضرار"[22]

وقد شرط النبي صلى الله عليه وسلم على بني ضَمرة ألا يحاربوا من دخل في دين الله، حتى يكون لهم النصر على من اعتدى عليهم أو حاول الاعتداء، وفي هذا إبعاد للعقبات التي يمكن أن تقف في طريق الدعوة؛ فقد أوجبت هذه المعاهدة على بني ضمرة ألا يحاربوا هذا الدين أو يقفوا في طريقه.

وتعتبر هذه المعاهدة كسباً سياسياًّ وعسكرياًّ للمسلمين لا يستهان به.[23]

- وفيها حكمته - صلى الله عليه وسلم - كقائد عسكري، إذ عاهد قوماً على طريق حركته وحركة سراياه، فأمن بهذا العهد جزءاً مهماً من الطريق، ويدرك العسكري المجرب أن فعله - صلى الله عليه وسلم - مكسب كبير وعمل موفق جليل، خاصة أنه يرسل أعداداً محدودة العدد.

قال القرطبي: "وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه أو ضرر يدفعونه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه"[24].

- ومما يعلم من الدين بالضرورة وجوب الوفاء بهذه العهود؛ فإذا ما خاف ولي الأمر من نقض الحليف عهده نبذ إليه عهده وقال له: لا عهد بيننا كما قال تعالى: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين.

- وفيها ما يجب على أمراء الجهاد من بذل كل الأسباب الشرعية لسلامة جنودهم طالما لذلك سبيل، وأي تهاون في ذلك هو خيانة للأمانة وقصور في الأداء.[25]

- وفيها فضيلة لحمزة ولسعد بن عبادة رضي الله عنهما.

والحمد لله رب العالمين.

 



[1] زاد المعاد (3/148)، وسيرة ابن هشام ت السقا (1/ 591).

[2] صحيح البخاري (5/ 71).

[3] النبي القائد (29/ 1)، والمعالم الجغرافية: (36)، ودلائل البيهقي (3/ 9).

[4] السيرة النبوية ابن هشام(1/ 591).

[5] صحيح البخاري (1825)، وانظر: جوامع السيرة (ص: 15).

[6] السيرة ابن هشام (1/ 591)، وقد خالف الطبري في تاريخ الغزوة فحكى الإجماع على أنها في ربيع

 وهذا فيه نظر؛  فقد ذكر ابن إسحاق، والزرقاني، وابن كثير: أنها كانت في شهر صفر.

[7] الرحيق المختوم (ص: 179).

[8] عيون الأثر (2/ 352)، والمختصر الكبير (57).

[9] السيرة النبوية لابن حبان (1/ 152).

[10] سيرة ابن هشام (1/ 591).

[11] صحيح البخاري (5/ 71)

[12] البخاري (3949)، ومسلم (1254).

[13] فتح الباري (7/ 280)، وفتح المنعم (7/ 386)، وعمدة القاري (17/ 74)،  وسيرة ابن كثير (2/ 362)، والمفهم (3/ 692).

[14] الرسول القائد (88).

[15] السيرة للصلابي (5/ 722)، والسيرة لأبي شهبة (1/ 75و76)، ومعين السيرة (175).

[16] السيرة النبوية (5/ 723)، وفي ظلال السيرة (12).

[17] صحيح البخاري (3012).

[18] إرشاد البرية إلى أخلاقيات الحرب (164).

[19] السيرة النبوية  (5/ 724)، ونشأة الدولة الاسلامية عون الشريف (43).

[20] السيرة النبوية للصلابي (5/ 725)، والفقه السياسي، خالد سليمان الفهداوي (ص 119).

[21] السيرة النبوية للصلابي(5/ 725).

[22] السيرة النبوية للصلابي (368).

[23] السيرة النبوية (5/ 726)، ودولة الرسول من التكوين الى التمكين، (530)، والدعوة الاسلامية عبد الغفار عزيز (296).

[24] تفسيره (8/ 40).

[25] النبي القائد (28/ 1).