باب دراسات شرعية: أثر السياق في فهم النفص (149) حجاب المرأة المسلمة (49)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبى بعده، وبعد: نستكمل الحديث عن أثر قرائن السياق على أدلة الحجاب، وقد وصلت إلى خاتمة البحث، وبدأت فى تلخيص ما توصلت إليه، أولاً: أدلة القرآن: وصلت إلى الدليل الخامس: قوله تعالى: (يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلايؤذين وكان الله غفوراً رحيما ً) (الأحزاب: 59).
الاستدلال فى الآية: (يدنين عليهن من جلابيبهن). وقد اختلفت أقوال أهل العلم في معنى الإدناء،، وهو ليس دليلا قطعيا -بمعنى أنه لايحتمل إلا معنى واحدا- لمن استدل به على أن معناه تغطية الوجه،وكذلك ما يقال فى الإدناء يقال فى الجلباب.
لكن الدليل فى الآية قطعى فى حجاب المرأة وسترها لجميع جسدها بمالايظهر شيئا من مفاتنها.
ثانيا: أدلة السنة:
1- حديث عائشة رضي الله عنها: كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها، فإذا جاوزونا كشفناه(مسند أحمد وغيره). وفى رواية: ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. الإستدلال من الحديث: إقرار النبى صلى الله عليه وسلم على فعلهن من إسدال الجلباب على وجوههن (على افتراض صحة الحديث إذ أن الحديث فى سنده ضعف كما سبق أن بينت ذلك.وله شاهد عن فاطمة بنت المنذر قالت:كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر. وهو في موطأ مالك وغيره،وصححه الحاكم في المستدرك ووافقه الذهبى، والألبانى في الارواء ح١٠٢٣، والأرناؤوط في المسند ٤٠/٢٣)
وتقرير النبى صلى الله عليه وسلم يدل على مشروعية ما أقره، لكن يبقى القول هل التقرير يدل على الوجوب أم الإستحباب وهذا يحتاج إلى قرينة أخرى غير إقراره فقط صلى الله عليه وسلم.
2- حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: المحرمة تلبس من الثياب ماشاءت إلاثوباً مسه ورس أو زعفران ولاتتبرقع ولاتتلثم وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت (أخرجه البيهقى فى الكبرى ح 9050، صححه الألبانى فى الإسد 4/212، الأرناؤط فى المسند 40/22).
قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إن شاءت، يرد على من استدل من حديث عائشة رضي الله عنها- المذكور قبل ذلك – بوجوب تغطية وجه المرأة فى غير حال الإحرام.
3- حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولاتنتقب المحرمة ولاتلبس القفازين.... (البخارى وغيره). الإستدلال من الحديث بمفهوم المخالفة أن النقاب والقفازين كانا معروفين فى النساء، لذا أمر النبى صلى الله عليه وسلم المحرمة أن لاتلبسهما. لكن لايستفاد من الحديث الوجوب أو عدمه إنما يستفاد منه مشروعية النقاب والقفازين.
4- حديث جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذاخطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى مايدعوه لنكاحها فليفعل... (مسند أحمد ح 14586 وقال الأرناؤوط حسن، وحسنه الألبانى فى المشكاة ح 3106). هذا الحديث ونظائره من أحاديث النظر إلى المخطوبة – الوجه والكفين عند الجمهور- ليست نصا فى وجوب النقاب أو عدم وجوبه، لذا تنازع العلماء فى الإستدلال بها.
5- حديث جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة، فأمرنى أن أصرف بصرى (صحيح مسلم وغيره). الحديث ليس قطعى الدلالة، لذا تنازع العلماء فيه بين وجوب ستر المرأة لوجهها وبين استحباب ذلك، فصرف البصر ليس مقصورا على الوجه فقط بل إلى كل مايتعلق بالمرأة.
6- حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف تصنع النساء بذيولهن ؟ قال يرخين شبرا، فقالت: إذا تنكشف أقدامهن (وفى رواية سوقهن) قال فيرخين ذراعا لايزدن عليه (صحيح سنن أبى داوود وغيره) الإستدلال من الحديث: قياس الأولى أن الوجه والكفين، أشد فتنة من القدمين، وعدم القياس على رواية الساقين فذلك يؤدى إلى ضعف القياس، والحديث ليس نصاً قطعى الدلالة فى وجوب تغطية وجه المرأة.
7- حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهى فى قعر بيتها (صحيح سنن الترمذى وغيره). الإستدلال من الحديث: المرأة كلها عورة فيدخل فى ذلك الوجه والكفان، ولايوجد إجماع بين أهل العلم على أن كل المرأة عورة حتى فى داخل الصلاة، فضلا عن الخلاف فى الوجه والكفين، وخروج بعض أفراد العام منه يضعف عمومه.
8- حديث أم سلمة رضي الله عنها: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان لإحداكن مكاتب، فكان عنده مايؤدى فلتحتجب منه (الترمذى وغيره).سند الحديث فيه مجهول وهو نبهان مولى أم سلمة، فالراجح ضعف الحديث -كما سبق بيان ذلك- ومن أخذ بتحسينه يرد عليه أن الإجماع على وجوب تغطية الوجه من الأحكام الخاصة بأمهات المؤمنين.
9- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاتباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها (صحيح البخارى) الإستدلال من الحديث: احتجاب النساء عن الرجال احتجاباً كاملاً مستدلاً بذلك على وجوب تغطية الوجه. والمباشرة لاتخص الوجه فقط بل هى أوسع من ذلك.
10- عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن مايعرفن من الغلس (متفق عليه) وفى رواية: وما يعرف بعضنا ً وجوه بعض) وفى رواية: ولايعرفن بعضهن بعضاً.
الإستدلال من الحديث: متلفعات، مايعرفن من الغلس. ليس فيه جواز كشف الوجه لمن قال بذلك، لاحتمال أنهن كن يكشفن وجوههن لاستتارهن بظلمة الليل.
11- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أومت امرأة من وراء ستر بيدها كتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبض النبى صلى الله عليه وسلم يده، فقال: ما أدرى أيد رجل أم يد امرأة ؟ قالت: بل يدا امرأة: قال: لو كنت امرأة لغيرت أظفارك، يعنى بالحناء (صحيح سنن أبى داوود وغيره). والحديث فى سنده خلاف بين أهل العلم، فمنهم من ضعفه،وحسنه الألبانى بشواهده فى الثمر المستطاب صـــ 311-315. والإستدلال به متنازع فيه لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها كشف يديها، ولليدين حكم الوجه، وأجيب بأنه يجوز كشف اليدين للضرورة.
12- عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لاتخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب فقال ياسودة، أما والله لاتخفين علينا، فانظرى كيف تخرجين.... الحديث (متفق عليه) والإستدلال منه فيه نزاع مشهور هل الخطاب لأمهات المؤمنين يشمل جميع النساء أم لا ؟.
13- عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن أسماء بنت أبى بكر رضي الله عنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه (أخرجه أبو داوود وغيره) والحديث فيه نزاع بين أهل العلم، فأكثر أهل العلم على تضعيفه، وهناك من حسنه بطرقه كالألبانى فى جلباب المرأة المسلمة صـــ 58-59) والبيهقى فى الكبرى 2/319).
14- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان فكلهم يصليها قبل الخطبة، ثم يخطب بعد، فنزل نبى الله صلى الله عليه وسلم، فكأنى أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال.... فقالت امرأة واحدة لم يجبه غيرها: نعم يارسول الله. وفى رواية: فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه (الخواتيم) وفى رواية فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين... (البخارى ومسلم).والإستدلال من الحديث فيه تنازع، هل كان ذلك قبل نزول آيات الحجاب، وهل هذه المرأة كانت من القواعد من النساء أم لا، وهل رأى النبى صلى الله عليه وسلم وجهها أم لا، وكيف رأى ابن عباس وبلال وجابر كما ورد في رواية للحديث رضي الله عنهم وجه المرأة.
15- عن ابن عباس رضي الله عنهما عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال: أن امرأة من خثعم استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع (يوم النحر) والفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الفضل رجلاً وضيئاً، فأخذ الفضل بن عباس يلتفت إليها وكانت امرأة حسناء (وفى رواية وضيئة) فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها (وتنظر إليه) فجعل النبى صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر (الحديث فى الصحيحين وغيرهما) والاستدلال من الحديث هو أقرب لمن قال بجواز كشف الوجه، لأن هذا كان يوم النحر بعد رمى الجمرات، فهى لم تكن محرمة.
16- عن سهل بن سعد رضي الله عنه يقول: أنا فى القوم إذ دخلت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى المسجد، فقالت: يارسول الله جئت لأهب لك نفسى فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعّد النظر إليها وصوَّبه ثم طأطأ رأسه،فقامت قياما طويلا، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها بشئ جلست، فقام رجل من أصحابه، فقال: يارسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها.... الحديث (البخارى ومسلم وغيرهما). الاستدلال من الحديث على أنها كانت كاشفة عن وجهها أقوى من الإستدلال على أنها كانت تغطيه وكشفته عند الواقعة فقط، لكن هل كان ذلك قبل نزول آيات الحجاب أم بعدها، مع تعدد أسماء الواهبات أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وللحديث بقية والحمد لله رب العالمين.