دراسات شرعية. أثر السياق فى فهم النص (146). حجاب المرأة المسلمة (الحلقة:٤٦) .
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لانبى بعده، وبعد: مازال الحديث متصلا عن أثر قرائن السياق على أدلة الحجاب، وقد قسمت أدلة الحجاب إلى ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى: أدلة القرآن . المجموعة الثانية: أدلة السنة . المجموعة الثالثة: الآثار عن الصحابة ومن بعدهم . وقد انتهيت بفضل الله تعالى من أدلة القرآن وأدلة السنة، وبدأت فى الآثار الواردة عن الصحابة ومن بعدهم، ووصلت إلى الأثر الثامن:
عن أنس رضى الله عنه قال: دخلت أمة على عمر بن الخطاب رضى الله عنه قد كان يعرفها لبعض المهاجرين أوالأنصار وعليها جلباب متقنعة به، فسألها أعتقت؟ قالت: لا. قال فما بال الجلباب؟ ضعيه عن رأسك،إنما الجلباب على الحرائر من نساء المؤمنين، فتلكأت فقام إليها بالدرة فضرب رأسها حتى ألقته عن رأسها (مصنف ابن أبى شيبة ٢/ ٢٣١، صححه الحافظ فى الدراية ١/ ١٢٤،وقال الألبانى وهذا إسناد جيد، انظر جلباب المرأة المسلمة ص ٩٩، وصححه في الإرواء ح ١٧٩٦) وله رواية أخرى أخرجها عبد الرازق فى المصنف عن أنس رضى الله عنه: رأى عمر - رضى الله عنه - أمة لنا متقنعة فضربها، وقال لاتتشبهى بالحرائر (وقال ابن حجر إسناده صحيح، وكذلك صححه الألبانى انظر السابق) .
القرائن حول الأثر:
١- قد كان يعرفها: بم كان يعرفها عمر قبل هذه الواقعة، لاشك أنه كان يعرفها بوجهها،أم بشئ آخر؟
٢- عليها جلباب، الجلباب أمر الله تعالى بإدناءه إذا خرجت المرأة من بيتها أو عندما تتعامل مع من ليس من محارمها على التأبيد، قال تعالى: (ياأيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلايؤذين وكان الله غفورا رحيما)(الأحزاب ٥٩)
٣- متقنعة به: هل كانت تغطى وجهها به فإن كان ذلك فكيف عرفها عمر رضى الله عنه، هل عرفها بصفة ما فى هيئتها، كما عرف سودة رضى الله عنها أم المؤمنين عندما خرجت منتقبة لبعض حاجتها، أم عرفها بوجهها . يبقى هذا على الاحتمال لكلا الفريقين، من قال بوجوب تغطية الوجه، قال كانت: متقنعة بالجلباب أى تغطى به وجهها، ومن قال بعدم وجوب تغطية الوجه، قال بل كانت كاشفة عن وجهها وبهذا عرفها عمر، وليس معنى التقنع هو تغطية الوجه . يقول الألبانى: أن عمر رضى الله عنه عرف هذه الأمة مع أنها كانت متقنعة بالجلباب أى متغطية به، وذلك يعنى بكل وضوح أن وجهها كان ظاهرا وإلا لم يعرفها (انظر جلباب المرأة المسلمة ص ٩٩) .
سبق أن ذكرت معنى القناع -فى مقال محرم ١٤٤٣- وخلاصة ما وصلت إليه أن التقنع هو تغطية الرأس، وقد يكون لتغطية الرأس والوجه، وقد يكون لتغطية الوجه فقط .فهو من قبيل المشترك اللفظى - أى الكلمة التى لها عدة معان - وحمل الكلمة على معنى واحد من معانيها يحتاج إلى دليل،
٣- فما بال الجلباب؟ ضعيه عن رأسك: قول عمر رضى الله عنها للأمة ضعيه عن رأسك، قد يكون لصالح من ذهب إلى أن المرأة لم تكن تغطى وجهها، وإلا فإن الأولى لعمر أن يقول لها ضعيه عن وجهك
٤- إنما الجلباب على الحرائر من نساء المؤمنين: يقول الألبانى: فقول عمر رضى الله عنه:إنما الجلباب على الحرائر،دليل واضح جدا أن الجلباب ليس من شرطه عند عمر أن يغطى الوجه، فلو أن النساء -كل النساء - كن فى العهد الأول يسترن وجوههن بالجلابيب ما قال عمر رضى الله عنه ما قال (انظر جلباب المرأة المسلمة ص ٩٩).
قلت: والدليل على الاحتمال وليس قطعى الدلالة، وإن كان الأقرب أن الأمة كانت كاشفة عن وجهها، أولا: لمعرفة عمر رضى الله عنها لما رآها . ثانيا: أمر عمر رضى الله عنه للأمة بأن تضع الجلباب عن رأسها، وليس هناك ذكر للوجه .
٥- هل تختلف الحرة عن الأمة المسلمة فى الملبس؟ لقد أورد الكثير من المفسرين أن هناك فرقا بين الحرة والأمة فى الملبس، بعد ذكر قوله تعالى: ياأيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلايؤذين وكان الله غفورا رحيما (الاحزاب ٥٩)، وأن الله أمر الحرائر بإدناء جلابيبهن للتفرقة بينهن وبين الإماء حتى لايتعرض لهن الفساق . والرواية التى وردت فى هذا الصدد، أوردها ابن سعد فى الطبقات: أخبرنا محمد بن عمر بن أبى سبرة، عن أبى صخر عن ابن كعب القرظى، قال: كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين يؤذيهن، فإذا قيل له؟ قال: كنت أحسبها أمة فأمرهن الله أن يخالفن زى الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن . قال الألبانى: لايصح، ففى سنده ابن أبى سبرة، وهو ضعيف جدا، وكذلك محمد بن عمر - الواقدى - وهو متروك . ثم قال: وفى معنى هذه الرواية روايات أخرى أوردها السيوطى فى الدر المنثور، وبعضها عن ابن جرير وغيره، وكلها مرسلة لاتصح، لأن منتهاها إلى ابن مالك وأبى صالح والكلبى ومعاوية بن قرة والحسن البصرى، ولم يأت شئ منها مسندا، فلا يحتج بها، لاسيما وظاهرها مما لاتقبله الشريعة المطهرة، ولا العقول النيرة، لأن توهم أن الله تعالى أمر إماء المسلمين - وفيهن مسلمات قطعا - على حالهن من ترك التستر ولم يأمرهن بالجلباب ليدفعن به إيذاء المنافقين لهم، ومن العجائب أن يغتر بعض المفسرين بهذه الروايات الضعيفة فيذهبوا بسببها إلى تقييد قوله تعالى (ونساء المؤمنين) بالحرائر دون الإماء، وبنوا على ذلك أنه لايجب على الأمة ما يجب على الحرة من ستر الرأس والشعر، بل بالغ بعض المذاهب فذكر أن عورتها مثل عورة الرجل من السرة إلى الركبة ….. وهذا مع أنه لادليل عليه من كتاب أو سنة مخالف لعموم قوله تعالى (ونساء المؤمنين) ثم نقل قول أبي حيان الأندلسي فى تفسيره البحر المحيط: والظاهر أن قوله (ونساء المؤمنين) يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر، لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح (انظر جلباب المرأة المسلمة ص ٩٠-٩٦) . وقد هاجم ابن حزم أقوال المفسرين الذين ذهبوا إلى التفرقة بين الحرة والأمة فى الملابس، ومما قال: فدين الله واحد والخلقة والطبيعة واحدة، كل ذلك فى الحرائر والإماء سواء، حتى يأتى نص فى الفرق بينهما فى شئ فيتوقف عنده …. (انظر. كلامه فى المحلى ٢/ ٢٤٨ - ٢٤٩) .ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس فى الكتاب والسنة إباحة النظر إلى عامة الإماء، ولاترك احتجابهن وإبداء زينتهن، ولكن القرآن لم يأمرهن بما أمر به الحرائر، والسنة فرقت بالفعل بينهن وبين الحرائر، ولم تفرق بينهن وبين الحرائر بلفظ عام، بل كانت عادة المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء …. ثم قال: فإذا كان في ظهور الأمة والنظر إليها فتنة وجب المنع عن ذلك (انظر حجاب المرأة المسلمة ولباسها فى الصلاة ص ٣٨-٣٩) .
الأثر التاسع: عن عطاء بن رباح قال: قال لى ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى . قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبى صلى الله عليه وسلم، قالت: إنى أصرع وإنى أتكشف فادع الله أن يشفينى . قال: إن شئت دعوت الله أن يشفيك وإن شئت فاصبرى ولاحساب عليك . قالت: بل أصبر ولاحساب علي . ثم قالت: إنى أتكشف فادع الله أن لاأتكشف، فدعا لها، وعن ابن جريج: أخبرنى عطاء: أنه رأى أم زفر تلك امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة (البخارى ومسلم واحمد وغيرهم).
اختلف فى هذه المرأة، هل هى ماشطة خديجة رضى الله عنها، أم غيرها فذهب فريق من أهل العلم إلى أنهما واحدة، وذهب فريق إلى أنهما اثنتان (انظر عمدة القارى ٢١/ ٢١٤، غوامض الأسماء المبهمة لابن بشكوالى ١/ ٢٩١، أسد الغابة ٧/ ٣٢٢، تهذيب الكمال ٣٥/ ٣٦١، تهذيب التهذيب ١٢/ ٤٧٠، الإصابة ٨/ ٣٩٤-٣٩٦) قلت: إن كانت هى ماشطة خديجة رضى الله عنها وعاشت إلى زمن عطاء، فلاشك أنها من القواعد حين رآها عطاء، وإن كانت امرأة اخرى ورآها ابن عباس رضى الله عنهما وعاشت إلى زمن عطاء فهى أيضا من القواعد . والسؤال: متى رآها ابن عباس، قبل نزول الحجاب أم بعده، وكم كان عمرها حين رآها ابن عباس . وهذه الأسئلة تجعل الأثر الذى استدل به الشيخ الألبانى على جواز كشف الوجه على الاحتمال فقط . والله أعلم وللحديث بقية والحمد لله رب العالمين