نظرات في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ ـ رضي الله عنه ـ حين أرسله إلى اليمن
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه هي التطبيق العملي لشرائع الإسلام، وفيها بيان لمواضع التأسي به صلى الله عليه وسلم، وفيها بيان لأخلاقه وشيمه وهديه في تعليم الصحابة والتعامل معهم ومخالطته لهم، خطب عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ فقال: «إنا والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، فكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير». [أخرجه أحمد(504)].
ولذا كان الأخذ بهدي الصحابة رضوان الله عليهم في الاعتقاد والعمل نجاة؛ لأنهم هم الذين عاصروا التنزيل، ورأوا التطبيق العملي له، وفي سيرته صلى الله عليه وسلم ردٌّ على كثيرٍ من الدعاوى والبدع التي تظهر حينًا بعد حين ركوبًا للهوى، واتباعًا للشبهات، بل وركوبًا للشهوات.
وقد كان أصل هذا المقال ردٌّ على بدعتي ضلالة تخالفان المعلوم من الدين بالضرورة علا صوت المنادين بهما:
الأولى: الدعوى لما يسمى بوحدة الأديان.
الثانية: دعوى أن غير المسلمين من أهل الكتاب بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من الناجين يوم القيامة، وأنهم يدخلون تحت المشيئة.
وكلاهما دعوى باطلة ساقطة تخالف المعلوم من دين الإسلام بالضرورة، وقد رأيت أن أسوق وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ حين بعثه قاضيًا ومعلمًا ومفقهًا لأهل اليمن ففيها الكثير من الأحكام العلمية العقدية، والأحكام العملية الفقهية وفيها ردٌّ على تلك البدعتين، فأقول وبالله التوفيق والسداد.
بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري (عبد الله بن قيس) ـ رضي الله عنه ـ إلى إقليم من أقاليم اليمن قاضيًا ومعلمًا، ثم أتبعه معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ إلى إقليم آخر من أقاليم اليمن في العام العاشر للهجرة، فعن أبي بردة قال: «بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن.
قال وبعث كل واحد منهما على مخلاف، قال: واليمن مخلافان.
ثم قال: يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا فانطلق كل واحد منهما إلى عمله.» [أخرجه البخاري (4341)، ومسلم(1733)]
والمخلاف: بكسر الميم وسكون المعجمة وآخره فاء- بلغة أهل اليمن الكورة والإقليم والرستاق.
وكانت جهة معاذ العُلَيَّا إلى صوب عدن، وكان من عمله الجَنَد- بفتح الجيم والنون- وله بها مسجد مشهور إلى اليوم، وكانت جهة أبي موسى السُّفْلَى (فتح).
ولم يكونا وحدهما من أرسل إلى اليمن، بل أرسل أيضًا:
خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ قبل حجة الوداع في ربيع الأول سنة عشر- وقيل: في ربيع الآخر، وقيل: في جمادى الأولى- إلى بنى عبد المدان بنجران فأسلموا.
ثم أرسل على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ إلى اليمن في شهر رمضان سنة عشر من الهجرة، وعقد له لواء وعممه بيده، ثم رجع منها فوافى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وقد قدمها للحج سنة عشر، فحج مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وتسمى حجة الإسلام، وحجة البلاغ. [ينظر: المواهب اللَّدنية بالمنح المحمدية، للقسطلاني(1 /432)].
والذي يهمنا في هذه المقالة من سوق هذه القصة العظيمة وصيته صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ حين بعثه إلى اليمن، فقد بلغ من اهتمامه صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية:
ـ أنه صلى الله عليه وسلم خرج يشيع معاذًا حين أراد الخروج إلى اليمن ماشيًا على قدميه، ومعاذ راكب على راحلته.
ـ أنه أوصاه بها وصية مودع.
ـ أنه أعلمه أنه لا يلقاه بعدها في الدنيا.
ـ أنه أخبره أنه إذا ما رجع إلى المدينة فسيمر بمسجده صلى الله عليه وسلم، وقبره.
قال معاذ ـ رضي الله عنه ـ: «لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: يا معاذ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري.
فبكى معاذٌ جَشَعًا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم التفت بوجهه نحو المدينة، فقال: إن أولى الناس بي المتقون من كانوا، وحيث كانوا.» [أخرجه أحمد (22052)، والجشع: الفزع لفراق الإلف]
قال ابن كثير في السيرة النبوية (4 /193): «وهذا الحديث فيه إشارة وظهور وإيماء إلى أن معاذًا ـ رضي الله عنه ـ لا يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وكذلك وقع، فإنه أقام باليمن حتى كانت حجة الوداع، ثم كانت وفاته عليه السلام بعد أحد وثمانين يومًا من يوم الحج الأكبر. »
وقد جاء سياق هذه الحادثة متفرق في عدد من الأحاديث، وفي بعضها ما ليس في الآخر، وقد ساق أصحاب الكتب الستة هذه الوصية لأهميتها من حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وهي التي نعتني بها في هذه المقالة، وسأذكر الفوائد التي تؤخذ من الجملة الأولى وحدها فيه على شكل فوائد.
فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.»
[أخرجه الستة: البخاري (1331)، (1389)، (1425)، (2316)، (4090)، (6937)، ومسلم (19/ 29 - 31)، وأبو داود (1584)، والنسائي (2522)، والترمذي (625)، (2014)، وابن ماجه(1783)].
الفوائد المستفادة من الجملة الأولى في الحديث:
الأولى: قوله: «إنك ستأتي قومًا أهل كتاب»: توطئة وتمهيد للوصية ليستجمع همته في دعوتهم، فإنَّ أهلَ الكتاب أهلُ علم، ومخاطبتهم لا تكون كمخاطبة جُهَّال المشركين وعَبَدَة الأوثان في العناية بها.
[إحكام الإحكام، لابن دقيق العيد (1 /375)، ورياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام، للفاكهاني(3 /288)].
الثانية: المراد بـ: أهل الكتاب: اليهود والنصارى مهما كانت أنسابهم، وليس المراد بهم من أرسل إليه نبي فإن ذلك يخرج غيرهم ممن لحق بهم.
فمن المعلوم أن موسى، وعيسى عليهما السلام قد بعثا إلى بني إسرائيل وأن الأنبياء والمرسلين كانوا يبعثون إلى قومهم خاصة.
قال الله تعالى في موسى صلى الله عليه وسلم: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 2]
وقال الله تعالى في عيسى {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 48، 49]
ومن المعلوم أيضًا كثرة النصارى في الروم والقبط وأهل نجران من اليمن في عهده صلى الله عليه وسلم وليسوا قطعًا من بني إسرائيل، وقد سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: أهل كتاب.
الثالثة: أهل الكتاب من اليهود والنصارى لهم أحكام خاصة تميزهم عن سائر المشركين، فمنها: حل ذبيحتهم، وإباحة التزوج من نسائهم، قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}[المائدة: 5].
الرابعة: قوله: «فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله» يدل على أشياء منها:
1 ـ أن الشهادتين أصل هذا الدين، فلا يصح إسلام أحد ولا الحكم بنجاته في الآخرة إلا بالإتيان بهما.
قال الفاكهاني في رياض الأفهام (3 /289): «أجمعت الأمةُ على أن الكفار مخاطَبون بهما.»
2 ـ أن التلفظ بالشاهدتين شرط للنجاة في الآخرة، كما أنهما شرط لإجراء الأحكام في الدنيا، وقد انعقد إجماع أهل السنة على ذلك.
قال الفاكهاني في رياض الأفهام (3 /289): «أي: تلفَّظوا بالشهادتين ولا بد، هذا معنى إطاعتهم بذلك، فلا يكفي غيرُ التلفظ؛ من إشارة، أو قرينة ما دالة على الإيمان، بل لا بد من النطق بهما جميعًا، حتى لو تلفظوا بإحداهما، لم يُكتفَ منهم بذلك.»
وهذا يدل على بطلان قول جمهور متأخري الأشعرية الذين يجعلون التلفظ بالشهادتين شرطًا لإجراء أحكام الدنيا فقط، فلو جاء في الآخرة ولم يتلفظ بالشهادتين بغير علة، وكان مصدقًا فهو عندهم من الناجين، قال إبراهيم اللقاني في جوهرة التوحيد:
وفسر الإيمان بالتصديق ...... والنطق فيه الخــــــــــلف بالتحقيق
فقيل شرط كالعمل وقيل ...... شطر والإسلام اشرحن بالعمل
3 ـ أن أهل الكتاب إن لم يقولوا الشهادتين فهم كفار، والإجماع منعقد على ذلك، فلم يخالف في ذلك أحد من فرق المسلمين.
فما يقوله بعض أهل الأهواء من أنهم ليسوا من الكفار لا أصل له في كلام أحد من الفرق الإسلامية.
قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام (1 /375): «والبداءة في المطالبة بالشهادتين: لأن ذلك أصل الدين الذي لا يصح شيء من فروعه إلا به.
فمن كان منهم غير موحد على التحقيق - كالنصارى - فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين عينا. ومن كان موحدا - كاليهود - فالمطالبة له: بالجمع بين ما أقر به من التوحيد، وبين الإقرار بالرسالة. وإن كان هؤلاء اليهود - الذين كانوا باليمن - عندهم ما يقتضي الإشراك، ولو باللزوم يكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم.
وقد ذكر الفقهاء: أن من كان كافرًا بشيء، مؤمنًا بغيره: لم يدخل في الإسلام إلا بالإيمان بما كفر به.»
4 ـ دل على كفر أهل الكتاب غير هذا الحديث أدلة كثيرة من الوحيين، والمسألة من المعلوم من الدين ضرورة، وسأكتفي من ذلك باثني عشر دليلاً كلها من القرآن:
أ ـ قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]، ومن في الآية بيانية وليست تبعيضية.
ب ـ قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70]
ج ـ قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
د ـ قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98]
هـ ـ قوله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[آل عمران: 72].
و ـ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150، 151]
ح ـ قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]
قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]
ك ـ قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2]
س ـ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر: 11].
ع ـ قوله تعالى: {يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1]
ف ـ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6].
5 ـ أورد بعض المبتدعين عددًا من الشبهات يستدل بها على أنهم ليسوا كفارًا منها:
أ ـ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
وهذه الآية بلا خلاف بين أهل الإسلام في الموحدين من أهل الكتاب الذين لم يدركوا بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
ب ـ قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82].
وهذه الآية لا تدل على ما ذهب إليه لأمرين:
الأول: أن ما احتج به من الآية ليس فيها أن النصارى ليسوا كفارًا.
الثانية: أنها فيمن أسلم منهم، ولو أكمل السياق بالآية التي تليها لتبين له هذا، قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].
ولهذا قال القاضي عياض في الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2 /286): «ولهذا نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك.»
6 ـ دل هذا الحديث على أن أول واجب في الإسلام هو الشهادتين، وأن معرفة الله تعالى شرعية وعقلية وفطرية.
ودل هذا على بطلان قول بعض الأشعرية إن أول واجب على العبيد هو المعرفة، أو النظر أو القصد إلى النظر، وجعلوا هذا كله من العقليات حتى إنهم لم يصححوا إيمان المقلد فاعتقدوا بذلك كفر جمهور المسلمين، وعندهم أن الأخذ فيها بالأدلة النقلية كالوحيين والإجماع تقليد، حتى قالوا: لا أثر للنقليات في العقليات، فإن المعتبر فيها الأدلة القاطعة - ويريدون بها الأدلة العقلية - فإذا انتصبت لم يعارضها شقاق، ولم يعضدها وفاق.
[ينظر: الشامل في أصول الدين لأبي المعالي الجويني، فصل: فيمن اخترمته المنية أثناء النظر (ص: 122)]
وقد نافح عن هذا القول السنوسي في عقيدة أهل التوحيد الكبرى وأطال النفس، فانظر قوله في حواشي على شرح الكبرى للسنوسي بداية من (ص: 39) إلى (ص: 95)]
وتقرير هذه المسألة بهذه الطريقة من بقايا مذهب المعتزلة، قال الحافظ في فتح الباري (13/ 349): «وقد وافق أبو جعفر السمناني - وهو من رؤوس الأشاعرة - على هذا، وقال إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة.»
وقال أبو العباس القرطبي - في المفهم لما أشكل من تلخيص: كتاب مسلم في كتاب: العلم، باب: كراهة الخصومة في الدين والغلو في التأويل والتحذير من اتباع الأهواء، عند شرح حديث عائشة –رضي الله عنها- قال رسول الله ‘: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» (6/ 693): «ولو لم يكن في الكلام شيء يذم به إلا مسألتان هما من مبادئه، لكان حقيقًا بالذم، وجديرًا بالترك:
إحداهما: قول طائفة منهم: إن أول الواجبات الشك في الله تعالى.
والثانية: قول جماعة منهم: إن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرقوها، والأبحاث التي حرروها، فلا يصح إيمانه، وهو كافر؛ فيلزمهم على هذا تكفير أكثر المسلمين من السلف الماضين، وأئمة المسلمين، وأن من يبدأ بتكفيره أباه وأسلافه وجيرانه، وقد أورد على بعضهم هذا، فقال: لا يشنع عليَّ بكثرة أهل النار.»
بل إن أبا الحسن الأشعري قد نفر من طريقة الفلاسفة والمتكلمين في إثبات وجود الرب، قال في رسالته إلى أهل الثغر (ص 186): «ما يستدل به من أخباره صلى الله عليه وسلم على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة، ومن اتبعها من القدرية، وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام.»
المسألة الثانية: أن السلف وجمهور الأمة، والأئمة الأربعة، على صحة إيمان المقر بالتوحيد الذي لم يدخل في إيمانه شك.
قال ابن العربي المالكي في المسالِك في شرح مُوَطَّأِ مالك (6/ 519): «أعتقها: يقتضي أن الإيمان يحصل بالإقرار، وإن لم يقترن به نظر، ولا استدلال، قاله القاضي أبو جعفر السمناني.»
هذا ما يسره الله في هذه العجالة والحمد لله رب العالمين.