لماذا التوحيد ..
للأستاذ الشيخ: محمد عبد المجيد الشافعي (رشاد الشافعي)
بقلم: رئيس التحرير
الرئيس العام للجماعة
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
ويصدر بعون اللَّه العدد الأول من مجلة التوحيد في زحمة الأحداث العاتية والظروف القاسية التي تكتنف العالم كله بصفة عامة والبلاد الإسلامية بصفة خاصة، حيث تجتاح الإنسانية موجة إلحادية وعواصف مادية انحرفت بالناس عن السبيل السوي حتى أصبح هدفهم تحصيل أكبر قدر من الشهوة وإدراك أوفى ما يمكن من اللذة دون وازع من ضمير أو رادع من خلق فانحطت بذلك معظم المجتمعات من درجة الإنسانية إلى درك الحيوانية التي لا تعرف شيئًا عن المرءوة والشهامة ولا الرجولة ولا الكرامة أو العفة والشرف أو الإيثار والوفاء أو التضحية والفداء وغيرها من المعالم التي تميز بها الإنسان على سائر الحيوان.
وشاء اللَّه وما شاء فعل أن يصدر هذا العدد والدنيا أشبه ما تكون بالبحر الهائج تتلاطم فيه الأمواج يعلوه دخان أشبه ما يكون بالضباب فهو بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب وفوق هذا وذاك عواصف وأنواء وشعاب، فتأخذ هذه المجلة المباركة مثل الجبل القائم على هذا البحر والجبل شاهق وعلى قمة الجبل الشاهق منار سامق له أنوار ساطعة وأضواء لامعة يأخذها من القرآن والسنة ثم يرسلها فتهدي السائرين وترشد الضالين وترد الحائرين وتمحو الأوهام وتبدد الظلام إلا من أغفل قلبه فهو من الهالكين ومن أغمض عينيه فهو في الأذلين.
أو لتأخذ مثل النور الذي ينفجر بعد ليل طويل اشتد ظلامه وتزاحمت كوارثه وزادت آلامه إيذانًا بفجر مبصر ونهار مبهر يرى الناس فيه الأمور على حقيقتها بعيدًا عن زيف الليل وتخييله أو لتكون كالمرآة الصافية الحاكية التي تأخذ النور من الكتاب والسنة تحويه في نفسها ثم تبقيه على غيرها فهي أداة لإظهاره وإظهار جماله معًا.
ومجلة التوحيد هي امتداد لأختها مجلة الهدي النبوي التي أسسها أستاذنا الجليل الشيخ محمد حامد الفقي رحمه اللَّه والتي ظلت طول سنيها تدافع عن التوحيد وترفع لواءه وتثبت دعامته في النفوس وترسي قواعده في القلوب لتخرج الناس من ظلمات المادية وعبادة الأصنام إلى نور التوحيد والإيمان وهي مع ذلك لم تكن تتجاهل أركان الإسلام الأخرى والحض على إقامتها والدعوة إلى التمسك بها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً وأسرة مجلة التوحيد تعاهد اللَّه أن تسير على هذا النهج وأن تكمل رسالة مجلة الهدي النبوي وأن تكون امتدادًا لها في خدمة الشعب وهداية الأمة وعزة الوطن متوخين في ذلك قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا ... }.
ويمكن للقارئ الكريم أن يلمح من اسم المجلة الغاية النبيلة من إصدارها والقصد الجليل من ظهورها والهدف الأسمى الذي ترجو أن يتحقق بانتشارها وهو إعلام الناس أن القرآن روح الإسلام وأن التوحيد روح القرآن وأن مجتمعًا بغير قرآن كالجسد بغير روح وأن الجسد بغير روح لا يصدر عنه إلا العفن والنتن وأن بطن الأرض أولى به من ظهرها فالأمة بغير قرآن أمة متهالكة ومتفرقة تشتت شملها وتفرق جمعها وتمزق صفها وهانت كرامتها وضاعت عزتها ومزقتها الأهواء والشهوات والأغراض كل ممزق.
أما التوحيد فهو الهدف من إرسال الرسل ونزول الكتب بل هو الهدف من خلق الإنسان والجان وفي هذا يقول اللَّه تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات]، والتوحيد هو قلب القرآن، فإذا فسد القلب توقف ضرباته وسكنت نبضاته وضاع الإيمان وهلك الإنسان. وفي هذا يقول اللَّه تعالى لأشرف خلقه وخاتم رسله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر].
ومن ثم فإن جماعة أنصار السنة المحمدية تركز في دعوتها على التوحيد لأن التوحيد يمنح المسلم مفتاح الحكمة ويرقى به في معارج السمو ويفتح له أبواب الكمال فلا يتصرف إلا بهدي القرآن ولا يسعى إلا بنوره ولا يقتدي إلا برسول اللَّه عليه الصلاة والسلام ولا ينطق إلا بالصدق ولا يتكلم إلا بالحق ولا يتعامل مع زوجه وأولاده وعشيرته ووطنه وولي الأمر في بلده إلا بالإخلاص حتى اللفظة يحسب حسابها وحتى اللفتة يخشى خطرها لأنه قد أدرك بالتوحيد أن اللَّه وحده هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
والتوحيد مدعاة للعزة فهو يأمر المسلم ألا يذل لأحد سوى اللَّه وأن يعلم أن الغيب للَّه فلا يكتب الحجاب ولا يفتح الكتاب ولا يقبل الأحجار والأعتاب والتوحيد يدعو المسلم إلى معرفة اللَّه في أسمائه وصفاته كما يدرك أنه وحده الملك كما يقول جل شأنه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران].
فإذا كان اللَّه وحده هو الملك، فمن ذا الذي يتصرف من نبي أو ولي أو شيخ ومن ذا الذي يتصرف في قوة أو ضعف أو حياة أو موت أو عز وذل أو غنى وفقر أو حياة وموت أو سعة في الرزق أو تقتير فيه إلا اللَّه الملك.
والتوحيد هو عبادة اللَّه الواحد والإيمان به وحده لا شريك له وأن الحكم له بوصفه الملك فلا تستقر الأمور ولا تستقيم الأوضاع ولا تسمو الأخلاق ولا ينتصر الحق ويسود العدل ولا يهدأ الاضطراب ولا يسكن القلق إلا إذا رضي الملك ولا يرضى الملك إلا إذا حكم. وحكمه وتشريعه العدل ودستوره الخير والبر وكتابه النور وسنة رسوله صلى الله وسلم هي الحكمة وقانونه ونظامه الصدق والهدى خير الهدى والإصلاح عين الإصلاح لا يكون إلا منه سبحانه.
وهو - أي التوحيد - يحفظ على المسلم إنسانيته ويصون كرامته فلا يذل للحجر ولا يتبرك بالشجر ولا يطوف بمقصورات الموتى ولا يطلب النصرة إلا من اللَّه ولا يسأل إلا إياه ولا يستعين إلا به ولا يضرع إلا إليه وحده لأن اللَّه يقول وقوله الحق: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك]، ومن ثم يأخذ المسلم أهبته ويعد عدته لمجابهة مشكلات الحياة وصروف الدهر في أناة وحزم وصبر وعزم ويسلك السنن الكونية التي أمر اللَّه بها في كتابه والتزمها الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته وسلوكه.
فإذا كان حاكمًا التزم العدل ونبذ الظلم وجعل الرحمة فوق العدل والكرم فوق الرحمة وبهذا يستقيم له الأمر ويثبت له السلطان في الأرض.
وإذا كان تاجرًا وجب أن يصدق الوعد وأن وفى بالعهد وأن يقيم الوزن بالقسط ولا يخسر الميزان فزعًا وفرقًا بين قوله تعالى: {ويل للمطففين ... }، وبهذا تنمو ثروته وتربح تجارته.
وإذا كان موظفًا التزم الأمانة ونبذ الخيانة ويسر على الناس أحوالهم وهون عليهم أمورهم وصرف لهم شئونهم فيرقى بذلك درجات عند اللَّه ويستولي على قلوب الناس فتنطلق ألسنتهم له بالدعاء والثناء. وإن كان عاملاً أحسن عمله وأتقن صنعته ووفى لصاحب العمل حقه تنفيذًا لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((إن اللَّه يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه)) وإذا كان فلاحًا أو زارع أرض فلح أرضه وزرع حقله وأحسن صنعه متوكلاً على اللَّه مؤمنًا بقوله تعالى في سورة الواقعة: {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ... }. فلا يلبث الزرع أن يبلغ نماءه حتى يسارع بإخراج زكاته تنفيذًا لأمر اللَّه عز وجل: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام].
والقائد في جنده والوالد في أهله وولده والزوجة في بيتها والغني في ماله والموظف في ديوانه كل يخشى اللَّه في تصرفاته ويرقبه في كل أحواله ويخافه في تدبير أموره ويتقيه طمعًا في رحمته وخوفًا من عذابه فتستقيم الأمور وتصلح الأعمال وتطيب الأقوال، واللَّه يقول: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}.
وفوق هذا فإن تحقيق لا إله إلا اللَّه تعدل السموات والأرض وعامرهن غير اللَّه كما ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال -: ((قال موسى: يا رب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به؟ قال: قال: يا موسى لا إله إلا اللَّه، قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا اللَّه في كفة مالت بهن لا إله إلا اللَّه)). رواه ابن حبان والحاكم.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: ((شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، فنزل قول اللَّه تعالى: {ليس لك من الأمر شيء} 3 - 128)).
وقضية التوحيد إذا أثيرت وشابها شيء من الشرك فإننا نرى غضب اللَّه سبحانه يبد أشد ما يكون وأوضح ما يكون، وإذا شئت فاقرأ قوله تعالى من سورة المائدة: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ... }.
ويتجلى ذلك أيضًا حينما تسمع للقرآن الكريم وهو يعلن أن اللَّه يغفر الذنوب جميعًا إلا الشرك، فيقول اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}.
إغلاظ في القول وعنف في الخطاب لأكرم خلق اللَّه على اللَّه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم للناس جميعًا؛ لأن التوحيد أخطر القضايا، فهو قاعدة الانطلاق إلى البر والخير والهدى والصلاح والإصلاح والمودة والألفة والوفاء والوئام والمحبة والأخوة والسلام. وإذا انتفى التوحيد واستعلن الشرك كما هو الواقع الآن فالشر والضر والعقوق والعبث والبغي والعسف والخسف والكذب والفحش والغش والطغيان والظلم وكل الموبقات ومن بعد ذلك نذر لولي أو عهد من شيخ كفيل بتكفير تلك الذنوب وهذه المعاصي، ومن ثم فلا داعي لصيام ولا صلاة ولا ضرورة لحج أو زكاة ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه ذاق حلاوة الإيمان:
1 - أن يكون اللَّه ورسوله أحب إليه مما سواهما.
2 - وأن يحب المرء لا يحبه إلا للَّه.
3 - وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)). إيذانًا بأن الشرك والكفر سبيل إلى الجحيم في الدنيا والآخرة.
وبعد .. فالتوحيد هو سر السلام الكوني، وإلى اللقاء في العدد المقبل إن شاء اللَّه.