الاقتصاد الإسلامي
مدخل ومنهاج
للأستاذ الدكتور: عيسى عبده
تحت هذا العنوان يكتب الأستاذ الدكتور عيسى عبده، سلسلة مقالات يهدف بها إلى تقريب فرع هام من فروع الدراسات الإنسانية التي ظن المسلمون - لبعض الوقت - أنها من ابتكار الغرب أو من الأمور التي يتنازع عليها الغرب والشرق دون أن يكون للأمة الإسلامية نصيب يذكر في هذا الأمر كله ... ويقول الكاتب: (إن الاقتصاد الإسلامي ينفرد بالكمال مع الثبات .. وشأنه في ذلك شأن كل الضوابط والمعايير المعروفة في الأمور الإنسانية).
وهكذا يرى القارئ أن البون شاسع بين ما يدعيه المستشرقون والمستغربون وبين ما يقوله هذا الكاتب الإسلامي المعروف .. ومن ثم كانت المجلة حريصة على التعرف بوجهة نظره، راجية من كل دارس ومن كل غيور على الإسلام أن يدلي بما عنده حول هذا الموضوع الهام.
واللَّه الموفق.
رئيس التحرير
بين يدي هذه الدراسات
يود الكاتب أن يشير بالتقدير وبالثناء إلى بعض الجهود التي بذلها المؤلفون الغيورون على الإسلام حين كتبوا عن الاقتصاد الإسلامي في تاريخ قريب .. ربما كان من بعد الحرب العالمية الثانية حين هبت أعاصير الفكر الاقتصادي على بلاد المسلمين .. فظهرت دراسات شتى في فروع كثيرة .. منها الملكية وإجارة الأعيان وإجازة الأشخاص والائتمان والتأمين والفوائد والربا والزكاة .. إلى آخر ما ذهب إليه المؤلفون في اجتهادهم - جزاهم اللَّه خيرًا - ومنهم من حاز الدرجات العلمية فيما أسماه ((الاقتصاد الإسلامي))، ولكن مادة هذه المؤلفات مستمدة من كتب الفقه .. كما كتبها الأولون .. ومن ثم كانت المادة مهيأة لكل قارئ ولكل كاتب يقتبس منها ويزيد أو ينقص .. ولكن ((المادة الاقتصادية بخلاف ما تقدم ذكره .. ذلك أن الفقه ثروة كبيرة القدر ولكنها ليست من صميم الدراسات الاقتصادية .. وهذه نجدها في كتاب اللَّه وفي السنة الشريفة وفي مراجع متفرقة من كتب الأدب وكتب التاريخ .. ولكن لا يتسنى للكاتب أن يميز بين ما هو من صميم ((الاقتصاد)) وبين ما عداه من فروع المعرفة، إلا إذا كانت حصيلة من هذه المادة شاملة لكثير من مدارس الفكر الاقتصادي والنظرية الاقتصادية لأهم المدارس التي عاشت من عهد الإغريق إلى يومنا هذا .. مع العلم - في الوقت ذاته - بالاتجاهات المرتقبة استنادًا إلى ((مؤشرات العصر))، فمثلاً نرى الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية، جميعًا يقترب بعضها من بعض .. وتكاد تتلاقى في ميادين التطبيق .. ومن خير من كتب في هذا الموضوع الأستاذ ((هالم)) إذ رأى في كل هذه المذاهب ظاهرة واحدة .. هي ((تكتل القدرات المالية والبشرية في تجمعات يحكمها إطار جامع، واتجاه هذه التكتلات إلى سحق الفرد أو النزول به إلى مستوى الأداة الصماء)).
وعلى كثير من الصبر والأناة في دراسة متصلة لعشرات السنين .. رأى الكاتب بوضوح أن الإسلام نسق مميز وليس له ضريب .. لأن قواعده الكلية وحي من عند اللَّه .. وما هي فكر ولا تحليل ولا رأي ولا إرادة فرد .. وشتان بين ما كان وحيًا من عند اللَّه وما كان اجتهادًا من عند الناس. فالناس قد تهتدي للصواب بالفطرة. وقد لا تهتدي. كما أنها قد تثبت على ما اقتنعت به. وقد تعدل عنه رغبة أو رهبة.
هذا ويرجو الكاتب أن يصبر القارئ طويلاً .. حتى يحيط بشيء من أوليات الاقتصاد فيما يقال له: ((المدخل)) قبل أن يصل إلى طلبته من المادة الإسلامية التي تبحث في أمور ثلاثة هي: الطيبة، والخدمة، والزينة، فهذا هو ميدان الاقتصاد الإسلامي .. وهذا ما لم يدركه الأولون والآخرون. وإنما تفرد به القرآن الكريم، في قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عند اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
ولقد يعجب القارئ حين نقول له: إن المدارس الاقتصادية التي فرضتها المناهج في جامعاتنا وفي معاهدنا قد جهلت حقيقة الميدان الذي تقع فيه جملة هذه الدراسات. ثم يتقضى العجب حين يعلم بأن الإسلام وحده هو الذي أحاط .. ولا نريد أن نستعجل من المادة الاقتصادية ما يجيء دوره بعد المدخل .. ولكننا نريد وحسب أن نذكر القارئ بأن فيوض المعرفة التي احتواها التراث الإسلامي جديرة باتخاذ الأسباب .. ومن الأسباب أن نلم إلمامة سريعة بالقليل من العلوم الخادمة التي توضح لنا، فيما بعد، ماهية الاقتصاد الإسلامي. وهذه هي الحلقة الأولى من سلسلة المقالات.
واللَّه المستعان.
عيسى عبده
الحقيقة الاقتصادية وعلم الاقتصاد
لقد أجمع الثقات من الباحثين في هذا الميدان من كتاب الغرب الصناعي المتقدم بوجه خاص على اتخاذ عام 1789 تاريخًا للبداية المبكرة لظهور الدراسات الاقتصادية بالمنهج العلمي .. ولهم في هذا الاختيار أقوال يجيء ذكرها في مناسبته.
كذلك أجمعوا على أمور جديرة بالتركيز والإحاطة قدر المستطاع في هذه الكلمات:
- يقولون بأن الأصول القديمة لدراسة الثروة ومشكلاتها مستقرة في التراث الإنساني القديم من غير شك .. ويذكرون من فلاسفة الإغريق ومشرعي اليونان طائفة اشتهر أمرها بين الدارسين كأفلاطون وأرسطو وأكسنافون وصولون، ثم يفصلون بين هذا القديم وبين العصر الذي بدأ مع الثورة الصناعية ومع الثورة الفرنسية في وقت معًا، ويمرون مرورًا سريعًا على ما بين هذين التاريخين ويكتفون بالقليل من البحث فيما صاحب الرسالات السماوية تباعًا وما كان في العصر الوسيط .. ويقفون عند مائتي عام مضت، ويقولون: من هذا التاريخ بدأت بواكير علم الاقتصاد.
- والأمر الثاني الذي يجمع عليه الثقات هو أن الاقتصاد فرع من جملة دراسات متكاملة منها الأخلاق والمنطق، ومنها الفلسفة والاجتماع والنفس والسياسة ونظم الحكم .. وعلى الرغم من أن الاتجاه التحليلي وإدخال الرياضيات في دراسة الظاهرة الاقتصادية يتزايد .. فإن فريقًا من الباحثين من ذوي السمعة العالمية، يضيقون بهذا الاتجاه وينكرون جدواه .. بل إن منهم من يسميه ترديًا علميًا ويشدد في تغليب القول بأن الاقتصاد من الدراسات الإنسانية أساسًا .. وإن إدخال الرياضيات في هذا النوع من المعارف، لم يبرر الجهد المبذول في عشرات السنين، على خلاف الحال في علوم الجوامد والطاقات حيث العناصر الفزيائية الثابتة هي الغالبة أو هي الوحيدة في الميدان.
- ومن الأمور المتفق عليها كذلك أن طائفة من الحقائق العلمية والظاهرات الاجتماعية التي أثرت في سلوك الأفراد والجماعات خلال مائتي عام مضت قد سارت معا في موكب واحد. منذ أن سقط الباستيل وبدأ تاريخ الثورات القريبة والمعاصرة، وفي شئون الطاقة والموارد الطبيعية وانتفاع الناس بهذا التقدم التكنولوجي الذي بدأ عندئذ في صورة غير مسبوقة ولم يتوقف.
وهكذا ترى ظاهرات يتأثر بعضها ببعض .. وقد تتقارب المسافات أو تتخلف بعض الشيء .. وإنما موكب التقدم الاجتماعي والصناعي لا ينفصل بعض مفرداته عن بعض.
ويذكرون على سبيل المثال: المزيد من الإفادة بموارد الطبيعة مع خفض التكاليف والتوسع في الأسواق وتقدم وسائل المواصلات والنقل. يذكرون هذا كله مع ارتقاء الوعي عند الفرد والجماعة وحصول الناس على حقوق سياسية، منها تكوين الجماعات والنقابات ثم الأحزاب والحكومات .. ومنها كسب المرأة لما يوصف بأنه جديد من الحقوق، كأن تجمع بين شئون الدار وكسب المعاش .. ويذكرون أيضًا ما استجد من الروابط بين الأفراد والجماعات على غير ما كان معهودًا قبل هذه الثورات .. والجدل حول الملكية الفردية والجديد في حجوم المشروعات وصورها والقيود التي أدخلها عليها الفكر.
هذه كلها مفردات قليلة من جملة القضايا التي يجمع الكتاب على أن بينها تماسكًا يفرض على الدارسين أن يتبينوه، لكي يروا الصلة بين القيمة المضافة إلى المواد بفضل العمل وبين مطالبة العمال بأن يكون لهم رأي ثم صوت في الشئون العامة ثم تكون لهم مقاعد في المجالس النيابة فالحكومات وحيث اجتمعت السلطات التشريعية والتنفيذية في ظل فكر اقتصادي معين أو فلسفة بذاتها .. فإن أمورًا قد كانت تبدو من قبل ماسخة هبت عليها أعاصير التغيير .. كحرية اختيار العمل وحصانة الملكية الخاصة وحق الميراث .. وكذلك يذكر الباحثون تلك الروابط المباشرة بين المنافسة على الأسواق من جهة وتتطور الدبلوماسية الدولية وصور التعاون في ناحية أو التكتل والخلاف والنزاع المسلح في ناحية أخرى ومن ثم توجيه المزيد من الموارد والطاقات (التي كانت أصلاً لرفاهية الإنسان) إلى أبواب أخرى من التقدم التكنولوجي في إنتاج وسائل التدمير.
- وكذلك يجمع الباحثون _ الأماندر) على أن الدراسات الاقتصادية منقطعة الصلة بالدين، وهذا أمر يعنينا - هنا في الشرق العربي خاصة وفي الأمة الإسلامية عامة - أن نشير إليه منسوبًا إلى قائله، ويجمعون أيضًا على أن الحقيقة الاقتصادية غير قابلة للتحديد الدقيق، فهي خيال محبب إلى كل باحث، ولكنه لا يقدر على تقريبه إلى الدارسين. هذا ما يزعمه الباحثون في الاقتصاد معزولاً عن الدين، ولكن .. نحن نقول: ما كانت الألفاظ لتنوء بحمل المعاش. ولكن النفوس هي التي تضيق بالحق ولا تطيقه .. حين يستقل العقل البشري بوضع القواعد الآمرة للناس. من دون رب الناس نستغفر اللَّه، ولكن هكذا كانت البداية مع الثورة الفرنسية وما تلاها على توسع في الرقعة التي هبت عليها الأعاصير.
إن الحقيقة الاقتصادية ليست من عالم ما وراء الطبيعة. إنها من هذا العالم الذي نعيش فيه. ويجب أن نكون على بينة من أنها تفر من المجتمع الإنساني كلما حاول التقرب منها .. على حين أن المعادلات الرياضية والقوانين الطبيعية وخصائص الأشياء تزداد تحديدًا واقترابًا من العقل البشري ومن اليد الماهرة ولذلك خيل للإنسان في زمننا هذا أنه ساد الأرض واقترب من سيادة الفضاء. أما الحقيقة الاقتصادية التي فنيت في سبيلها الأعمار خلال بضعة أجيال مضت. فلا يزال وصفها يتعثر على الشفاه.
نقول بأنها تحقيق لرفاهة الكثرة الغالبة من الناس بأقل التضحيات، وبأنها التوازن الإنساني الذي لا يلتزم بميزان تجاري أو حسابي أو ميزان للمدفوعات. ونقول بأنها الثمن العادل والأجر الذي يحفظ على الأجير كرامته كإنسان. وهي كفالة فرص العمل لكل قادر عليه راغب فيه. وهي رعاية المجتمع للأسرة إن هلك عائلها، لأنه في حياته قد أسهم في تشييد البناء وتعبيد الطريق، أو أسهم في زيادة العمران بما أنتج من خدمة أو سلعة. وهي توفير الأمن على المال والعرض والولد وعلى جملة الحريات التي يستوي فيها كل العباد.
ولكن هل يستطيع الإنسان أن ينصف غيره من الناس؟!
هذا هو السؤال الذي تصدى له الباحثون أو نقول: هي هذه التجربة التي مرت بها الإنسانية مائتي عام وفاضت المكتبات بالملايين من الصفحات في صور شتى من مقالات ومحاضرات وإحصاءات يجمعها الهواة. وبرامج لجماعة من المصلحين والساسة ودعاة الفتح وغصب موارد الآخرين. والخطب الانتخابية وبرامج الأحزاب وسياسات الدول. وأخيرًا المراجع العلمية ومناهج البحث في الجامعات!!
وهذا الحشد كله. يسمى ((علم الاقتصاد)) إلى حد أن بعض المفكرين ضاق به ضيقًا شديدًا. ومن ثم كانت ثورة الشرق على النظريات الغربية وكان إنكار الغرب للفكر الناهض له. ثم نجيء نحن في هذه البيئة الغنية بتراثها ونتساءل كما يتساءلون: أين يبدأ هذا العلم وأين ينتهي ومتي يستقر؟
وللإجابة عن هذه الفقرات الثلاث التي تتكامل في سؤال واحد. نقول بأن الأمر يستقر حين نفصل العلم مع الفكر والرأي. إن للعلم خصائص تكفل له الثبات والثراء بإضافة قدر منه جديد إلى أصول معلومة من قبل، أما الفكر فقد يسير مع الهوى ومع السلطان ومع البغى ثم يزول. فيكون الفراغ (كما يقولون) ويملأ الفراغ جديد من الأهواء والآراء. ولذلك قلنا بإنها دراسات تتناول المدارس المشهورة وأفكارها وآراءها. وما يعرف بالعقائد والمذاهب والسياسات في مائتي عام خلت. هي الأصل فيما تعانيه الإنسانية إلى يومنا هذا. أما الحقيقة الاقتصادية فقد زادت على هذه الجهود بعدًا وغموضًا لأنها غرقت في مواكب الزحام. زحام البشر الذي أراد أن يضع للأمور الإنسانية قواعد من عنده وأراد أن ينكر رسالة السماء.