الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحة أجمعين أما بعد؛ فلا نزل في ذكر أحداث غزوة بدر الكبرى وقد تناولنا في العدد السابق حال كل من الفريقين في عين الآخر ثم عرجنا إلى تسوية صفوف المسلين وما كان من سواد بن غزية رضي الله عنه
والآن نكمل – إن شاء الله تعالى- ما كان من أحداث عسى أن تكون لنا خير قائد إلى التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم
نُزُولُ جَيْشِ قُرَيْشٍ إِلَى وَادِي بَدْرٍ وَوُقُوعُ الِانْشِقَاقِ فِيهِ:
لما ذكرنا في العدد السابق مبيت المسلمين وما كان منهم كان ذلك داعيا إلى ذكر مبيت المشركين ونزولهم ببدر
قال ابن هشام: أَمَّا قُرَيْشٌ؛ فَقَضَتْ لَيْلَةَ بَدْرٍ في مُعَسْكَرِهَا بِالعُدْوَةِ القُصْوَى، فَلَمَّا رَاَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تنْحَدِرُ مِنَ الكَثِيبِ إِلَى وَادِي بَدْرٍ قَالَ: "اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا، تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فنصْرَكَ الذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ أَحِنْهُمُ الغَدَاةَ" ابن هشام (2/260) .
وقال ابن إسحاق: حدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم عن أشياخ من الأنصار فَلَمَّا اطْمَأنَّتْ قُرَيْشٌ بَعَثَتْ عُمَيْرَ بنَ وَهْبٍ الجُمَحِيَّ طَلِيعَةً لِيَحْزِرَ أصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَيَأْتِيَهُمْ بِعَدَدِهِمْ وَعُدَّتِهِمْ، فَاسْتَجَالَ عُمَيْرٌ بِفَرَسِهِ حَوْلَ العَسْكَرِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِم، فَقَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ، وَلَكِنْ أمْهِلُونِي حَتَّى أنْظُرَ أَلِلْقَوْمِ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ، فَضَرَبَ في الوَادِي حَتَّى أبْعَدَ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، وَلَكِنِّي قَدْ رَأَيْتُ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، البَلَايَا تَحْمِلُ المَنَايَا، نَوَاضِحُ يَثْرِبَ تَحْمِلُ السُّمَّ النَاقِعَ، أَمَا ترَوْنَهُمْ خُرْسًا لَا يَتَكَلَّمُونَ، يَتَلَمَّظُونَ تَلَمُّظَ الأَفَاعِي، وَاللَّهِ مَا أَرَى أَنْ يُقْتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّى يَقْتُلَ رَجُلًا مِنْكُمْ، فَإِذَا أصَابُوا مِنْكُمْ أَعْدَادَهُمْ فَمَا خَيْرُ العَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَرَوْا رَأْيَكُمْ... فَلَمَّا سَمِعَ حَكِيمُ بنُ حِزَامٍ ذَلِكَ مَشَى في النَّاسِ، فَأَتَى عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ فَقَالَ: يَا أبَا الوَليدِ! إِنَّكَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا، المُطَاعُ فِيهَا، هَلْ لَكَ إِلَى خَيْرٍ تُذْكَرُ بِهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، أَوْ قَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تَذْهَبَ بِشَرَفِ هَذَا اليَوْمِ مَا بَقِيتَ؟
قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا حَكِيمُ؟ قَالَ: تَرْجعُ بِالنَّاسِ، وَتَحْمِلُ أَمْرَ حَلِيفِكَ عَمْرِو اللؤلؤ المكنون في بنِ الحَضْرَمِيِّ، أَوْ قَالَ: إِنَّكُمْ لَا تَطْلُبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ إِلَّا دَمَ ابنِ الحَضْرَمِيِّ، وَهُوَ حَلِيفُكَ فتَحَمَّلْ دِيَتَهُ وَتَرْجعَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، أَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ حَلِيفِي، فَعَلَيَّ عَقْلُهُ، وَمَا أُصِيبَ مِنْ مَالِهِ.
ثُمَّ قَالَ عُتْبَةُ لِحَكِيمِ بنِ حِزَامٍ: فَأْتِ ابنَ الحَنْظَلِيَّةِ -يَعْنِي أبَا جَهْلٍ- فَإِنِّي لَا أخْشَى أَنْ يَشْجُر أمْرَ النَّاسِ غَيْرُهُ، ثُمَّ قَامَ عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ خَطِيبًا، فَقَالَ: يَا قَوْمِ، إِنِّي أَرَى قَوْمًا مُسْتَمِيتِينَ لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِمْ وَفِيكُمْ خَيْرٌ، يَا قَوْمِ اعْصُبُوهَا اليَوْمَ بِرَأْسِي ، وَقُولُوا: جَبُنَ عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أنِّي لَسْتُ بِأَجْبَنِكُمْ..
السيرة النبوية (3 - 169)، وقال الألباني في هذا السند: حسن إن شاء الله، وقال أبو عمر الصوياني: أثر صحيح. الصحيح من أحاديث السيرة النبوية (ص: 212).
وبينما قريش تنزل من الكثيب رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عُتْبَة بن رَبِيعة على جمل أحمر فقال : إن يكن في أحد من القوم خير؛ فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا. ابن هشام (2/261).
وعن علي رضي الله عنه: فَلَمَّا دَنَا الْقَوْمُ مِنَّا وَصَافَفْنَاهُمْ إِذَا رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ يَسِيرُ فِي الْقَوْمِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم يَا عَلِيُّ نَادِ لِي حَمْزَةَ وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ الأَحْمَرِ وَمَاذَا يَقُولُ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم: إِنْ يَكُنْ فِي الْقَوْمِ أَحَدٌ يَأْمُرُ بِخَيْرٍ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْجَمَلِ الأَحْمَرِ فَجَاءَ حَمْزَةُ فَقَالَ هُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهُوَ يَنْهَى عَنِ الْقِتَالِ وَيَقُولُ لَهُمْ يَا قَوْمِ إِنِّي أَرَى قَوْمًا مُسْتَمِيتِينَ لاَ تَصِلُونَ إِلَيْهِمْ وَفِيكُمْ خَيْرٌ يَا قَوْمِ اعْصِبُوهَا الْيَوْمَ بِرَأْسِي وَقُولُوا جَبُنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَسْتُ بِأَجْبَنِكُمْ قَالَ فَسَمِعَ ذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ أَنْتَ تَقُولُ هَذَا وَاللهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ هَذَا لأَعْضَضْتُهُ قَدْ مَلأَتْ رِئَتُكَ جَوْفَكَ رُعْبًا فَقَالَ عُتْبَةُ إِيَّاىَ تُعَيِّرُ يَا مُصَفِّرَ اسْتِهِ سَتَعْلَمُ الْيَوْمَ أَيُّنَا الْجَبَانُ. مسند أحمد ت شاكر (948)، والحاكم في المستدرك (4882) وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، وقال الحاكم على صحيح على شرط الشيخين.
وَتَعَجَّلَ أَبُو جَهْل لَعَنَهُ اللَّهُ، وَبَعَثَ إِلَى عَامِرٍ الحَضْرَمِيِّ -أخِي عَمْرٍو الحَضْرَمِيِّ المَقْتُولِ في سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ لَهُ: هَذَا حَلِيفُكَ -أَيْ عُتْبَةُ- يُرِيدُ أَنْ يَرْجعَ بِالنَّاسِ، وَقَدْ رَأَيْتَ ثَأْرَكَ بِعَيْنِكَ، فَقُمْ فَانْشُدْ خُفْرَتَكَ وَمَقْتَلَ أخِيكَ، فَقَامَ عَامِرٌ يَصْرَخُ: وَاعَمْرَاهُ، وَاعَمْرَاهُ، فَحَمِيَ القَوْمُ، وَحَقِبَ أمْرُهُمْ، وَاسْتَوْسَقُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، وَأَفْسَدَ عَلَى النَّاسِ الرَّأْيَ الذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ عُتْبَةُ وَهَكَذَا تَغَلَّبَ الطَّيْشُ عَلَى الحِكْمَةِ.السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة (2/ 77).
توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم قبل المعركة
عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ وَجَاءَ المُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُوذِنُهُ". صحيح مسلم (1901)، ومسند أحمد (12421) وهذا لفظ أحمد.
ولفظ مسلم "حتى أكون أنا دونه" أي: قدامه متقدما في ذلك الشيء لئلا يفوت شيء من المصالح التي لا تعلمونها. شرح النووي على مسلم (13/ 45). وعليه فمعناهما واحد.
خطة القتال وكيفيته
ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم خطة القتال على خلاف المعهود عند العرب في ذلك الوقت؛ حيث أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكسروا هجمات المشركين؛ وهم مرابطون في مواقعهم؛ فعَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا: "إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ" البخاري (2900و3985).
قوله: "إذا أكثبوكم"؛ أي: إذا قربوا منكم بحيث تصل إليهم سهامكم فارموهم بالسهام وأصله من الكثب وهو القرب يقول إذا دنوا منكم فارموهم ولا ترموهم على بعد.
"واستبقوا نبلكم" "النبل": السهم؛ يعني: ارموهم بالنبل، ولكن لا ترموهم بجميع نبالكم، بل اتركوا بعض نبالكم، فإنكم لو رميتم بجميع نبالكم فحينئذ بقيتم بلا نبل فغلبوا عليكم. وقال ابن الجوزي: ومعنى "واستبقوا نبلكم" لا ترموهم إذا بعدوا، فإنه يضيع النبل. اهـ وقال ابن حجر: وفي رواية له ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم فظهر أن معنى الحديث الأمر بترك الرمي والقتال حتى يقربوا لأنهم إذا رموهم على بعد قد لا تصل إليهم وتذهب في غير منفعة وإلى ذلك الإشارة بقوله واستبقوا نبلكم وعرف بقوله ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم أن المراد بالقرب المطلوب في الرمي قرب نسبي بحيث تنالهم السهام. اهـ والمقصود: حافظوا على الذخيرة، ولا تقوموا بإهدار هذه السهام.
المفاتيح (4/ 404)، ومعالم السنن (2/ 278)، وكشف المشكل (2/ 133)، وفتح الباري (6/ 92).
وقال ابن رسلان: "ولا تسلوا السيوف" فيه النهي عن سل السيوف في غير وقت القتال، وتقدم النهي عن تعاطيه مسلولا، وفي معناه التقافه مسلولا والمشي به مسلولا، وكذا إذا كان العدو بعيدا لا يسل.
وهذا يظهر حسن التدبير العسكري، وذلك حينما أمرهم بالدفاع عن بعد برمي السهام، والاقتصاد في رميها، وسل السيوف عند تداخل الصفوف فحسب. شرح سنن أبي داود لابن رسلان (11/ 467)
قال السرجاني: إن هذا التكتيك النبوي يحتاج منا إلى وقفة؛ حتى نعرف صفة مهمة من صفات الجيش المنصور، فمن صفات الجيش المنصور: الإعداد الجيد والأخذ بكل أسباب النصر المادية، والعمل بكل ما هو متاح في اليد لتحقيق النصر، وقد رأينا كيف حصلت المخابرات الإسلامية على أخبار جيش مكة، ورأينا الموقع العسكري المتميز الذي نزلوا فيه، ورأينا التوجيهات العسكرية الحكيمة، ورأينا الصفوف والترتيب، وسنرى أيضا مهارة القتال وقوة الضربات والشجاعة والإقدام والاحترافية في الحرب؛ فهو إعداد في منتهى الروعة، إذ الجيش كله يتكون من فرسين وسبعين جملاً، وعدة المسافر ليست عدة المحارب، لكن هذه هي الإمكانيات التي في استطاعتهم، والرسول عليه الصلاة والسلام أعد كل ما في استطاعته؛ لذلك ليس غريباً أن تجد في سورة الأنفال قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60].
إشفاق ودعاء
وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العريش ومعه صاحبه الصدّيق، وسعد بن معاذ على باب العريش شاهرا سيفه، واتجه النبي بقلبه وصدق إخلاصه إلى الله عز وجل، مستنزلا النصر والمدد لأصحابه ...
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ عَدَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّفُوفَ وَرَجَعَ إِلَى الْعَرِيشِ؛ فَدَخَلَهُ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاقِفًا عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ مُتَقَلِّدًا بِالسَّيْفِ وَمَعَهُ رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. السيرة لابن كثير (2/ 411).
وأَخْرَجَ البَزَّارُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: يَا أيُّها النَّاسُ مَنْ أشْجَعُ النَّاسِ؟ فَقَالُوا: أَنْتَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: أمَا إِنِّي مَا بَارَزَنِي أَحَدٌ إِلَّا انْتَصَفْتُ مِنْهُ، وَلَكِنْ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، إنَّا جَعَلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَرِيشًا، فَقُلْنَا مَنْ يَكُونُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَوَاللَّهِ مَا دَنَا مِنَّا أحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ شَاهِرًا بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لَا يَهْوِي إِلَيْهِ أحَدٌ إِلَّا أَهْوَى عَلَيْهِ، فَهَذَا أشْجَعُ النَّاسِ ... فَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ لِلصِّدِّيقِ، حَيْثُ هُوَ مَعَ الرَّسُول فِي الْعَرِيشِ، كَمَا كَانَ مَعَهُ فِي الْغَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي قُبَّةٍ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ اليَوْمِ» فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ وَهُوَ فِي الدِّرْعِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]، صحيح البخاري (2915).
وعن ابن عَبَّاسٍ، يَقُولُ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: "اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ"، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] صحيح مسلم (1763).
وأخذت النبي سنة وهو في العريش ثم انتبه فقال: "أبشر يا أبا بكر، فقد أتاك نصر الله، هذا جبريل اخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع"، حسنه الألباني في هامش فقه السيرة (234) وصدق الله حيث يقول: "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ"
التوجيه المعنوي والتحريض على القتال
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوف المسلمين يحرضهم على القتال؛ كما في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ»، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»، قَالَ: - يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: - يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا»، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. صحيح مسلم (1901)