باب دراسات شرعية: أثر السياق في فهم النص (150) حجاب المرأة المسلمة (50)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين، وبعد: نستكمل الحديث عن أثر قرائن السياق على أدلة الحجاب، وقد وصلت إلى خاتمة البحث، وبدأت فى تلخيص ما توصلت إليه فبدأت بأدلة القرآن، ثم بأدلة السنة، ووصلت فيها إلى الدليل السابع عشر:
١٧- حديث عائشة رضى الله عنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى الصبح فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس (متفق عليه).وفى رواية: ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد (البخارى). وفى رواية: أولا يعرف بعضهن بعضا (البخارى) وفى رواية: وما يعرفن من تغليس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة (مسلم). وفى رواية: لقد رأيتنا نصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر فى مروطنا، وننصرف وما يعرف بعضنا وجوه بعض (مسند أبى يعلى ح ٤٤٩٣، صحح إسناده حسين سليم أسد، والألبانى فى الصحيحة ح ٣٣٢) (الغلس: هو وقت اختلاط ضوء الصبح بظلمة الليل). الاستدلال من الحديث: ما يعرفن من الغلس: هل كن كاشفات الوجوه، وتسترن بظلمة آخر الليل، أم كن مغطيات الوجوه، وإن كانت رواية: وما يعرف بعضنا وجوه بعض، ترجح أنهن كن كاشفات الوجوه، ولم يعرف بعضهن بعضا من الظلام. الدليل فى الحديث ليس قطعيا إنما هو ظنى، يحتمل كل ما ذهب إليه الفريقان.
١٨- عن فاطمة بنت قيس رضى الله عنها قالت: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب … فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال ليس لك عليه نفقة، وأمرها أن تعتد فى بيت أم شريك ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابى، اعتدى عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده …. (مسلم) وفى رواية: فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك. وفى رواية: فإنى أكره أن يسقط عنك خمارك أو ينكشف الثوب عن ساقيك.
الاستدلال من الحديث: استدل به من قال بجواز كشف الوجه باعتبار أن النبى صلى الله عليه وسلم أقرها على أن يراها الرجال بخمارها فقط. وهذا فيه نظر، لأن قول النبى صلى الله عليه وسلم هو من باب التنبيه على بعض ما لايجوز للمرأة إظهاره، بقرينة رواية: أو ينكشف الثوب عن ساقك. وليس هو من قبيل ما يجوز للمرأة إظهاره أو عدم إظهاره.
١٩- حديث أبى سلمة:... وفيه أن سبيعة الأسلمية رضى الله عنها وضعت حملها بعد وفاة زوجها بنصف شهر، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رضى الله عنه، فقال لها: مالى أراك متجملة، وقد اكتحلت واختضبت وتهيأت لعلك ترجين النكاح، وكان أبو السنابل قد تقدم لخطبتها فرفضته (البخارى ومسلم وغيرهم).
الاستدلال من الحديث: تجملت للخطاب: ليس فيه صراحة أنها كانت كاشفة عن وجهها، فالتجمل يكون فى الملابس والهيئة. واكتحلت: لايدل على كشف الوجه، وإنما قد يظهر الكحل فى عينيها وهى منتقبة، واختضبت: الخضاب نعم فى اليدين، فهى كانت مكشوفة اليدين، لكن المرأة المنتقبة قد تتساهل أحيانا فى كشف يديها.
٢٠- حديث عائشة رضى الله عنها قالت: أومت امرأة من وراء ستر بيدها كتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبض النبى صلى الله عليه يده، فقال: ما أدرى أيد رجل أم يد امرأة. قالت: بل يد امرأة. قال: لو كنت امرأة لغيرت أظفارك، يعنى بالحناء (سنن أبى داود وغيره).
الاستدلال من الحديث:
١- الحديث فى سنده مقال، فهو ضعيف، وحسنه الألبانى بشواهده.
٢- الاستدلال بسكوت النبى صلى الله عليه وسلم على كشف المرأة ليديها، أنها ليست عورة، والوجه كذلك له حكم اليدين. وورد فى رواية أن هند بنت عتبة رضى الله عنها كانت كاشفة عن كفيها عند المبايعة، وسند الرواية أيضا فيه مقال، وحسنه الألبانى بشواهده، وهذا يرد على من قال أن الواقعة كانت قبل نزول آيات الحجاب، فالمبايعة كانت فى عام الفتح، وقد استدل بالحديث على جواز كشف الوجه إلحاقا باليدين، واستدل به على عكس ذلك، وهو أقرب لمن استدل بكشف اليدين على كشف الوجه، لكن يرد على ذلك ماسبق أن أشرت إليه من أن المرأة تتساهل فى يديها ما لاتتساهل فى وجهها.
٢١- حديث عائشة رضى الله عنها قالت: رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يسترنى بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة ….. (متفق عليه). الاستدلال من الحديث: يسترنى بردائه: هل يستدل بذلك على وجوب تغطية سائر الجسد بما فى ذلك الوجه؟ لاخلاف فى ذلك فى حق أمهات المؤمنين اتفاقا - إنما يرد الخلاف فى دخول غير أمهات المؤمنين فى الأمر بالحجاب الكامل أم لا؟.
٢٢- حديث عائشة رضى الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهو عروس بصفية بنت حيى، جئن نساء الأنصار فأخبرن عنها. قالت: فتنكرت وتنقبت فذهبت، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عينى فعرفنى…. (سنن ابن ماجه وغيره).
الاستدلال من الحديث: سند الحديث ضعيف، ضعفه البوصيرى فى مصباح الزجاجة، والألبانى فى الضعيفة، والأرناؤط فى سنن ابن ماجه وقوى الحديث التويجرى بشاهد مرسل عن عطاء واستدل به على وجوب النقاب لعدم إنكار النبى صلى الله عليه وسلم على عائشة بتغطية وجهها. والحديث ضعيف، وإن تحسن فالكلام سيكون فى دخول غير أمهات المؤمنين فى الأمر بالحجاب الكامل.
٢٣- حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال: قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعنى ميتا - فلما فرغنا، انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفنا معه، فلما حاذى بابه وقف فإذا نحن بامرأة مقبلة، قال أظن عرفها ….. فلما ذهبت إذا هى فاطمة عليها السلام…. (سنن أبى داود والنسائى ومسند أحمد وغيرهم).
الاستدلال من الحديث: الحديث ضعيف، ضعفه النسائى فى السنن، والأرناؤط فى المسند، والألبانى فى التعليقات الحسان والضعيفة وغيرهما واستدل به التويجرى على مشروعية الاحتجاب للنساء. والحديث ضعيف ولو تحسن فيكون الاستدلال به على مشروعية النقاب وليس على وجوبه، ومشروعية النقاب لاخلاف فيها بين أهل العلم القائلين بوجوب النقاب أو استحبابه.
٢٤- حديث أسامة بن زيد رضى الله عنهما أن أباه قال: كسانى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية (ثياب تصنع فى مصر) كانت مما أهداها له دحية الكلبى فكسوتها امرأتى ….. فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرها فلتجعل تحتها غلالة (مايلبس تحت الثوب) إنى أخاف أن تصف حجم عظامها (مسند أحمد وغيره). الاستدلال من الحديث: الحديث ليس قطعى الدلالة فى وجوب تغطية الوجه، ومن استدل به استدل بجامع أن الفتنة بالوجه أولى من الجسد، وهذا غير مسلّم به.
٢٥- حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم: إياكم والجلوس على الطرقات …… فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال غض البصر …… الاستدلال من الحديث: غض البصر: استدل به القائلون بجواز كشف الوجه (متفق عليه)، لأن غض البصر إنما يكون عن وجه المرأة أو الذى فيه حسنها، وهذا غير مسلّم به، فالرجل مطالب بغض البصر عن المرأة بكاملها.
٢٦- حديث بريدة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ياعلي لاتتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة (سنن الترمذى وغيره). الاستدلال من الحديث: لاتتبع النظرة النظرة كالحديث السابق لايحصر النهى عن اتباع النظر للمرأة على أن وجهها يكون مكشوفا، فالنهى إنما عن النظر إلى المرأة والتمعن فيها.
٢٧- حديث جرير بن عبد الله رضى الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمرنى أن أصرف بصرى (مسلم وغيره).
الاستدلال من الحديث: فأمرنى أن أصرف بصرى. الحديث ظنى الدلالة فى تغطية وجه المرأة أو عدم تغطيته، لذا استدل به الفريقان من قال بوجوب تغطية الوجه ومن قال بجواز كشف الوجه.
٢٨- حديث سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال استأذن عمر رضى الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش ….. فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب…. (متفق عليه).
الاستدلال من الحديث: قمن يبتدرن الحجاب، هل لبسن النقاب وكن لايلبسنه فى جلستهن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبى أقرهن على ذلك، أم إن المقصود أسرعن واختبأن لما سمعن صوت عمر، وهذا ما أرجحه.
٢٩- حديث ام سلمة رضى الله عنها قالت: لما انقضت عدتى من أبى سلمة أتانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمنى بينى وبينه حجاب … (أخرجه ابن سعد فى الطبقات، انظر جلباب المرأة المسلمة للألبانى ص ٨٧).
الاستدلال من الحديث: فكلمنى بينى وبينه حجاب: سواء كان الحجاب هو التستر وراء جدار أو ستار أو هو تغطية الوجه، فالحديث دليل على مشروعية تغطية الوجه، ويبقى النزاع هل هو على الوجوب أم الاستحباب. ثالثا: الآثار الواردة عن الصحابة ومن بعدهم:
١- عن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنها: كنا نغطى وجوههنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك فى الاحرام (صحيح ابن خزيمة وغيره) صححه الأعظمى، والحاكم والذهبى والألبانى). الاستدلال من الأثر: كنا نغطى وجوههنا من الرجال: فيه مشروعية تغطية وجه المرأة، هل ذلك على الوجوب أم على الإستحباب؟
فى أثر عائشة رضى الله عنها: المحرمة تلبس من الثياب ماشاءت إلاثوبا مسه ورس أو زعفران ولاتتبرقع ولاتتلثم وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت (أخرجه البيهقى فى الكبرى ح ٩٠٥٠، وصححه الألبانى فى الإرواء والأرناؤط فى المسند). قولها إن شاءت: يدل على عدم الإلزام وتمسك بهذا من قال بمشروعية تغطية الوجه وليس وجوب تغطيته.
وللحديث بقية والحمد لله رب العالمين