باب السنة: فوائد عبر من قصة موسى والخضر عليهما السلام
إعداد الأستاذ الدكتور/ مرزوق محمد مرزوق
نائب الرئيس والمشرف العام
الحمد لله حق حمده والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين وبعد:
فقد تكلمنا في لقاء سابق حول حديث نبي الله موسى والخضر عليهما السلام وتناولناه عرضا وتخريجا وشرحا على قدر الوسع ومبلغ العلم، واليوم يمن الله علينا باستكمال الحديث ذكرا لبعض فوائده واستلالا لجملة من فرائده
الحديث: وفيه قول سعيد بن جبير رضى الله عنه:
قُلتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ نَوْفًا البِكَالِيَّ يَزْعُمُ أنَّ مُوسَى صَاحِبَ الخَضِرِ، ليسَ هو مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إسْرَائِيلَ، فَقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ! حدَّثَني أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ: أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا في بَنِي إسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أيُّ النَّاسِ أعْلَمُ؟ فَقالَ: أنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عليه؛ إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ...فذكر الحديث .
مما يستفاد من الحديث من هذه القصة:
1- الإيمان بالله تعالى، وأنه عليم، وأنه يعلم الغيب وأنه لايعلم الغيب إلا هو والجن والأنس لايعلمون الغيب كما قال تعالى: ( قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ).
2- ركنية الإيمان بالقضاء والقدر وأن قضاء الله كله خير مهما بدا لنا في ظاهره وعلم الله يقتضي ذلك، ومن ذلك ما كان من أمر الخضر عليه السلام إذ تصرف بعلم علمه الله له، فكان الواجب الإيمان به وأنه خير رغم أن ظاهره لنا بل ولسيدنا موسى عليه السلام بل ولأصحاب القصص المذكورة كما في سورة الكهف كان للجميع ظاهره شر ولما فسره الخضر عليه السلام بما علمه الله تعالى صار كل عاقل لله شاكرا ثم على الخضر عليه السلام شاكرا راضيا مترضيا, وهذا شأن أقدار الله تعالى لو علم الأنسان الحكمة منها، لكن الله تعالى فرض على الإنسان الإيمان بالقدر خيره وشره والتسليم له سواء علم الحكمة أم لم يعلم فلا يعقل أن يجعل الله تعالى لنا في كل حاثة خضرا يفسرها بل ولا للخضرنفسه ذلك فعلم الخضر عليه السلام محدود بما علمه الله كشأن باقي الأنبياء والمرسلين، كما قال تعالى (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) .
لكن البعض منا بفهومنا القاصرة وعقولنا المتأخرة المتحجرة نسينا أن نسبة علمنا إلى علم الله تعالى هى نسبة صفرية كما قال رب البرية: (والله يعلم وأنتم لاتعلمون )، فجعلنا بعقولنا من مقامات الإيمان بالقضاء والقدر مقام التقييم لقدر الله تعالى وهو سوء أدب معه سبحانه، إذ مقامات الإيمان بالقضاء ثلاث مقامات وأركانه أربع أركان
فأما المقامات فهى الصبر والرضا والشكر وليس منها ما أوجده الإنسان الجهول من مقام التقييم والتوجيه والتعديل
وأما الأركان فهى العلم والكتابة والمشيئة والخلق، فلما علم سبحانه أزلا كتب في اللوح المحفوظ قدرا ولما شاء خلق قضاء
وعليه فالأركان الأربع التي هى: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، فمن أقر بها جميعًا كان إيمانه بالقدر كاملاً، ومن انتقص واحدًا منها فقد اختل إيمانه بالقدر.
وبيان ذلك هو:
1- الإيمان بعلم الله الأزلي السابق، وأنه أحاط بكل شيء علمًا، وعلم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، والله تعالى علم بكل شيء جملة وتفصيلاً، وعلم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم وآجالهم، وأعمالهم، وأعمارهم، وحركاتهم، وسكناتهم، وعلم شقيهم وسعيدهم، ومن منهم من أهل الجنة، ومن منهم من أهل النار قبل أن يخلقهم، وقبل أن يخلق السماوات والأرض، كما قال سبحانه: عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ [سبأ: 3]، وقال: أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231]، وقال: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12].
إذاً ما هو الأمر الأول من الأمور الأربعة الإيمان بعلم الله السابق.
2- الإيمان بكتبه للمقادير، وأن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، كما قال I: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج: 70]، وقال: أوَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [النمل: 75]، وقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ[فاطر: 11]، فنؤمن أن الله كتب ما سبق به علمه من مقادير المخلوقات في اللوح المحفوظ، وأن هذا الكتاب لم يفرط فيه شيء، يعني: كتب فيه كل شيء، وهذا يسمى أم الكتاب، ويسمى الذكر، ويسمى الإمام، ويسمى الكتاب المبين، كله اللوح المحفوظ، قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس: 12].
وقال تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 4]، وقال: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[الأنبياء: 105]، وقال عليه الصلاة والسلام: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة[مسلم: 2653]، وقال أيضاً: أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد [أبو داود: 4702، وصححه الألباني صحيح الجامع: 2018].
فإذاً اللوح المحفوظ هو أم الكتاب، وهو الإمام، وهو الكتاب المبين له، وهو الذكر، الدليل: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء: 105].
3- الإيمان بالإرادة والمشيئة، فنؤمن بأن الله I لا يجري في السماوات والأرض والكون شيء إلا بمشيئته وإرادته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حركة ولا سكون في السماوات والأرض إلا بمشيئته، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، ولا يخرج عن إرادته شيء، قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ[الإنسان: 30].
وقال: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]، كل واحدة من هذه لها معنى لأننا لما نقول: لا يكون في ملكه إلا ما يريد، لأن بعض المبتدعة قالوا: إنه تقع أشياء بغير إرادة الله، هؤلاء الضلال الذين قالوا: هذه الشرور كيف يريدها، فهي تقع بغير مشيئته، فأرادوا أن يتلافوا شيئًا، فوقعوا فيما هو أدهى وأمر، لأنهم اتهموا الله بالجهل، قالوا: يقع ما لا يعلمه، واتهموه بالعجز.
فقالوا: يقع ما لا يريده، وأهل السنة يقولون: كل ما يقع علمه، وكل ما يقع كتبه، وكل ما يقع شاءه وأراده، ولم يحدث إلا بإرادته ومشيئته، وله وراء كل شيء حكمة، ولا يشاء شيئًا حتى لو كان هزيمة أحد إلا وله من ورائه حكم عظيمة، وإن كانت في ظاهرها شرًا لكن من ورائها حكم عظيمة؛ حتى خلق إبليس له من ورائه حكم عظيمة، فلا يقع في العالم شيء إلا ولله فيه حكمة.
3- الإيجاد والخلق، فنؤمن بأن الله I خالق كل شيء، لا خالق غيره، ولا رب سواه، وأن كل ما سواه مخلوق، فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته، وكل ما يجري في العالم من خير وشر وكفر وإيمان وطاعة ومعصية قد شاءه، وقدره، وخلقه، وأوجده، قال سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2]، وقال: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62].
فمعلوم أن أهل السنة يؤمنون بقضاء الله تعالى وقدره، بمراتبه الأربعة: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، فيؤمنون بعلم الله القديم المحيط بكل شيء، ومنه ما الخلق عاملون، وأنه سبحانه كتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم، وأنه عز وجل شاء ذلك سلفا، ومشيئته نافذة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه تعالى خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال عباده،
هذا ومن أشهر من ضل في عقيدة القدر فرقة القدرية، قال السفاريني في لوامع الأنوار البهية: القدرية فرقتان:
الأولى: تنكر ما ذكرنا من سبق العلم بالأشياء قبل وجودها، وتزعم أن الله لم يقدر الأمور أزلا، ولم يتقدم علمه بها، وإنما يأتنفها علما حال وقوعها، وكانوا يقولون: إن الله أمر العباد ونهاهم، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدخل الجنة ممن يدخل النار حتى فعلوا ذلك، فعلمه بعد ما فعلوه... قال العلماء: والمنكرون لهذا انقرضوا، وهم الذين كفرهم الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد وغيرهم من الأئمة رضي الله عنهم...
الثانية من فرقتي القدرية: المقرون بالعلم، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: القدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبا باطلا أخف من المذهب الأول.... قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: وأما هؤلاء ـ يعني الفرقة الثانية ـ فإنهم مبتدعون ضالون لكنهم ليسوا بمنزلة أولئك، قال: وفي هؤلاء خلق كثير من العلماء والعباد، كتب عنهم، وأخرج البخاري ومسلم لجماعة منهم... اهـ. (ينظر كتاب: القضاء والقدر للدكتور عمر سليمان الأشقر، ورسالة القضاء والقدر للشيخ ابن عثيمين)
4- ومما يستفاد: أن الإنسان مهما أوتى من علم أذن الله له به فإنه كما قال الله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )، وأن مهمة العلم الذي يقربه من مولاه هى وظيفة الحياة وبيان ذلك أن نبي الله موسى عليه السلام لما علم أن الخضر عليه السلام أعلم منه تكبد من عناء السفر والرحلة في طلب العلم ما قد رأيت بل وإن نبينا صلى الله عليه وسلم يقول:: يرحمُ اللَّهُ موسَى لَودَدنا أنَّهُ كانَ صَبرَ حتَّى يقصَّ علَينا مِن أخبارِهِما.
5- ومما يستفاد: أن الرحلة في طلب العلم من سنن المرسلين وهدي الصالحين إذ فيها الخير والبركة والهداية والإيمان، وننصح بالتفضل بمراجعة الماتع من أخبار السلف في الرحلة في طلب العلم كالرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي رحمه الله ونحو ذلك .
5- ومما يستفاد: أن من آداب الطلب ما يكون من إحترام المتعلم لمعلمه وامتثاله مهما كان قدر المتعلم من العالم وأحواله وها نحن قد رأينا نبي الله موسى عليه السلام ولا شك أنه على قدرا من الخضر عليه السلام لكنه لما كان في موقع المتعلم كان في هيئة الممتثل لمعلمه وينصح في ذلك بمراجعة هذه المادة العظيمة الأهمية في مظانها كآداب العالم والمتعلم والمفتي والمستفتي وفضل طلب العلم في مقدمة المجموع وغيرها من الكتب .
6- وأن مصاحبة الصالحين فضل وشرف؛ حيث تكرَّر ذكر الفتى ببركة مصاحبة نبي من الأنبياء، ثم كان من فضل الله عليه الفتى هو سيدنا يوشع عليه السلام.
7- تعليق الأفعال بالمشيئة من هدي المرسلين، وهو كما قال تعالى: ﴿ستجدني إن شاء الله صابرًا﴾، ﴿ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله﴾.
8 – درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة وهو من فعل الخضر عليه السلام مع الغلام . لكنها ليست مطلقة فتقدير المصالح والمفاسد يرجع إلى أهل العلم الثقات .
9- أهمية الإيمان والعمل الصالح من الآباء في صلاح الأبناء كما قال تعالى: ﴿فكان أبواه مؤمنين وكان أبوهمـا صالحًا﴾، إذ خير الوالدين يتعدى إلى الأولاد، ولو كان بعد موتهمـا.
10- أن الله يفعل في ملكه ما يريد ويحكم في خلقه بما يشاء مما فلا مدخل للعقل في أفعاله ولا معارضة من الخلق لأحكامه بل يجب على الخلق الرضا والتسليم.
وفي هذا القدر الكفاية واستغفر الله لي ولكم