بدعة القول بعدم وقوع الطلاق الشفوي
د. محمد عبد العزيز
بيانات المقال |
|
السنة |
50 (1442هـ) |
العدد |
594 (جمادى الآخرة) |
الصفحات |
44: 47 |
التاريخ الميلادي |
2021م |
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فالقول بعدم صحة وقوع الطلاق الشفوي خرق لإجماع الأمة العلمي والعملي بعد خمسة عشر قرنا من الزمان لم يقل به أحد من علمائها قط، واشتراط عدم وقوع الطلاق الشفوي في عقد الزواج باطل.
علمًا بأن التوثيق الكتابي لعقدي الزواج والطلاق في مصر أمر مستحدث في عهد الدولة العثمانية بمرسوم صدر سنة: ٩٢٧ للهجرة ١٥٢٠ للميلاد، وكان الهدف من توثيق عقدي الزواج والطلاق هو حفظ حقوق الزوجين والولد الناشيء بينهما.
ولم يكن الهدف من التوثيق الكتابي لعقد الزواج والطلاق الحكم بعدم صحة الزواج ولا الطلاق الشفوي، فهما واقعان بإجماع الأمة سلفا وخلفا إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع .
وما يهمنا هنا هو حكم الطلاق الشفوي الصريح ، الموجه لزوجة تزوجها زواجًا صحيحًا،فهو واقع بإجماع الأمة سلفًا و خلفًا، إذا وقع من : مسلمٍ ، بالغٍ ، عاقلٍ ، قاصدٍ للفظه ، مختارٍ غير مكره.
فلا تفتقر صحة وقوع الطلاق إلى توثيق إجماعًا، وإنما التوثيق لحفظ الحقوق و ضمانها عند خراب الذمم .
وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
أما أدلة الكتاب:
فقد قال تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227]
وقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]
وقال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230]
وقال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231]
وقال: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1]
وغيرها من محكم التنزيل فلم يشترط في الكتاب توثيقًا كتابيًّا قط.
وأما أدلة السنة فكثيرة منها:
حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها، فتزوجت آخر، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أنه لا يأتيها، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة.
فقال: لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.»
أخرجه البخاري في مواضع منها (2496)، (5317)، ومسلم (1433)، وأبو داود (2309)، والترمذي (1118)، والنسائي (6 / 146 و147).
فلم تذكر توثيقًا كتابيًّا في الطلاق، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم وقوع الطلاق.
وحديث فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها -: «أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته، فقال: والله مالك علينا من شيء، فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقة، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني، قالت: فلما حللت ذكرت له: أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد، فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة، فنكحته، فجعل الله فيه خيرا، واغتبطت.» أخرجه مسلم (1480)، وأبو داود رقم (2284) و (2285) و (2286) و (2287) و (2288) و (2289) و (2290) و (2291)، والترمذي (1135)، (1180)، والنسائي (6 / 74).
فلم تذكر توثيقًا كتابيًّا وأقر النبي صلى الله عليه وسلم وقوع الطلاق.
وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ: «أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنت أحق به ما لم تنكحي.» أخرجه أبو داود (2276)
فلم تذكر توثيقًا كتابيًّا وأقر النبي صلى الله عليه وسلم وقوع الطلاق.
وأما الإجماع:
ـ فقد قال ابن المنذر في كتابه: الإجماع ( 64 ) : « و أجمعوا : على أن جد الطلاق ، و هزله سواء . »
و هو في الإشراف في " جماع أبواب الطلاق بمعاني مختلفة " ( ص 194 ) .
ـ و قال ابن حزم في مراتب الإجماع ( ص 71 ) : « اتفقوا : أن طلاق المسلم ، العاقل ، البالغ الذي ليس سكران ، و لا مكرهًا ، و لا غضبان ، و لا مكرهًا ، و لا محجورًا ، و لا مريضًا ، لزوجته التي قد تزوجها زواجًا صحيحًا : جائز ، إذا لفظ به بعد النكاح مختارًا له حينئذ ، و أوقعه في وقت الطلاق ، بلفظ من ألفاظ الطلاق ، على سنة الطلاق : فإنه طلاق . »
ـ و قال ابن القطان الفاسي في الإقناع في مسائل الإجماع ( 2 / 31 ) :
. و أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن طلاق الجد ، و الهزل سواء «
و ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح ، و الطلاق ، و الرجعة . »
ـ و قال ( 2 / 31 ): « ـ و لا نعلم خلافًا أن من طلق ، و لم يشهد أن الطلاق له لازم.
ذكر ما يقع في الطلاق من قول أو غيره :
ـ و اتفقوا على : أن ألفاظ الطلاق طلاق ، و ما تصرف من هجائه بما يفهم منه معناه ، و البائن ، و البتة ، و الخلية ، و البرية، و أنه إن نوى بشيء من هذه الألفاظ طلقة واحدة سنية لزمته كما قدمنا .
ـ و اتفقوا : أنه إن أوقع هذه الألفاظ ، أو بعضها بلفظه ، مختارًا كما قلنا على المرأة نفسها ، لا على نفسه ، ولا على بعضها ، و لا على غيرها ، فإنها واقعة على الصفات التي قدمنا . »
ـ و قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري ( 6 / 240 ) : « قال تعالى: { وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته } .
ـ وأجمعت الأمة أن التفرق فى هذه الآية أن يقول لها : أنت طالق . »
ـ و قال ابن قدامة في المغني ( 7 / 397 ) : « صريح الطلاق لا يحتاج إلى نية ، بل يقع من غير قصد، " و لا خلاف في ذلك . "
و لأن ما يعتبر له القول يكتفي فيه به ، من غير نية ، إذا كان صريحًا فيه ، كالبيع.
وسواء قصد المزح أو الجد؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: « ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح، والطلاق، والرجعة . »
رواه أبو داود، و الترمذي، و قال: حديث حسن .
قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم ، على أن جد الطلاق ، و هزله سواء . »
ـ و قال ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد ( 3 / 115 ) : « أجمع المسلمون على أن الطلاق يقع إذا كان بنية ، و بلفظ صريح . »
ـ و قال الشافعي في الأم ( 7 / 89 ) : « فاحتمل أمر الله عز وجل بالإشهاد في الطلاق والرجعة ما احتمل أمره بالإشهاد في البيوع .
ودل ما وصفت من أني لم ألق مخالفًا حفظت عنه من أهل العلم : أن حرامًا أن يطلق بغير بينة . »
ـ و قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 33 / 33 ، 34 ) : « قال تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله}
فأمر بالإشهاد على الرجعة والإشهاد عليها مأمور به باتفاق الأمة.
قيل: أمر إيجاب.
وقيل أمر استحباب.
وقد ظن بعض الناس : أن الإشهاد هو الطلاق وظن أن الطلاق الذي لا يشهد عليه لا يقع، " وهذا خلاف الإجماع "، و " خلاف الكتاب والسنة " .
" و لم يقل أحد من العلماء المشهورين به " ؛ فإن الطلاق أذن فيه أولًا ، و لم يأمر فيه بالإشهاد ، و إنما أمر بالإشهاد حين قال : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } .
و المراد هنا بالمفارقة : تخلية سبيلها إذا قضت العدة ، و هذا ليس بطلاق ، و لا برجعة ، و لا نكاح .
و الإشهاد في هذا باتفاق المسلمين ، فعلم أن الإشهاد إنما هو على الرجعة. »
ـ و قال الشوكاني ( 6 / 300 ) : « ومن الأدلة على عدم الوجوب أنه قد وقع الإجماع على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق . »
و قال في السيل الجرار ( 1 / 439 ) : « وقد وقع الاجماع على عدم وجوب الاشهاد في الطلاق واتفقوا على الاستحباب. »
فإذا كان هذا في الإشهاد فما بالك في أمر مستحدث في القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي قصد منه حفظ الحقوق.
وقد خرج بيان لهيئة كبار العلماء بالأزهر للرد على بدعة القول بعدم وقوع الطلاق الشفوي فكان مما جاء فيه:
«انطلاقًا من المسؤوليَّة الشرعيَّة للأزهر الشريف ومكانته في وجدان الأمَّة المصريَّة التي أكَّدها الدستور المصري، وأداءً للأمانة التي يحملُها على عاتقِه في الحِفاظ على الإسلام وشريعته السمحة على مدى أكثر من ألف عام من الزمن- عقدت هيئة كبار العلماء عدَّة اجتماعاتٍ خلالَ الشهور الماضية لبحثِ عدد من القضايا الاجتماعية المعاصرة؛ ومنها حكم الطلاق الشفويِّ، وأثره الشرعي، وقد أعدَّت اللجان المختصَّةُ تقاريرها العلمية المختلفة، وقدَّمتها إلى مجلس هيئة كبار العلماء الذي انعقد اليوم الأحد 8 من جمادى الأولى 1438هـ الموافق 5 من فبراير 2017م، وانتهى الرأي في هذا المجلس بإجماع العلماء على اختلاف مذاهبهم وتخصُّصاتهم إلى القرارات الشرعية التالية:
أولاً: وقوع الطلاق الشفوي المستوفي أركانَه وشروطَه، والصادر من الزوج عن أهلية وإرادة واعية وبالألفاظ الشرعية الدالة على الطلاق، وهو ما استقرَّ عليه المسلمون منذ عهد النبيِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- وحتى يوم الناس هذا، دونَ اشتراط إشهاد أو توثيق.
ثانيًا: على المطلِّق أن يُبادر في توثيق هذا الطلاق فَوْرَ وقوعِه؛ حِفاظًا على حُقوقِ المطلَّقة وأبنائها، ومن حقِّ وليِّ الأمر شرعًا أن يَتَّخِذَ ما يلزمُ من إجراءاتٍ لسَنِّ تشريعٍ يَكفُل توقيع عقوبةً تعزيريَّةً رادعةً على مَن امتنع عن التوثيق أو ماطَل فيه؛ لأنَّ في ذلك إضرارًا بالمرأة وبحقوقها الشرعيَّة.
هذا.. وترى هيئة كبار العلماء أنَّ ظاهرةَ شيوع الطلاق لا يقضي عليها اشتراط الإشهاد أو التوثيق، لأن الزوجَ المستخفَّ بأمر الطلاق لا يُعيِيه أن يذهب للمأذون أو القاضي لتوثيق طلاقه، علمًا بأنَّ كافَّة إحصاءات الطلاق المعلَن عنها هي حالاتٍ مُثبَتة ومُوثَّقة سَلَفًا إمَّا لدى المأذون أو أمام القاضي، وأنَّ العلاج الصحيح لهذه الظاهرة يكون في رعاية الشباب وحمايتهم من المخدرات بكلِّ أنواعها، وتثقيفهم عن طريق أجهزة الإعلام المختلفة، والفن الهادف، والثقافة الرشيدة، والتعليم الجادّ، والدعوة الدينية الجادَّة المبنيَّة على تدريب الدُّعاة وتوعيتهم بفقه الأسرة وعِظَمِ شأنها في الإسلام؛ وذلك لتوجيه الناس نحوَ احترامِ ميثاق الزوجية الغليظ ورعاية الأبناء، وتثقيف المُقبِلين على الزواج.
كما تُناشِد الهيئةُ جميعَ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الحذَر من الفتاوى الشاذَّة التي يُنادي بها البعض، حتى لو كان بعضُهم من المنتسِبين للأزهر؛ لأنَّ الأخذَ بهذه الفتاوى الشاذَّة يُوقِع المسلمين في الحُرمة.
وتهيب الهيئة بكلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ التزام الفتاوى الصادرة عن هيئة كبار العلماء، والاستمساك بما استقرَّت عليه الأمَّةُ؛ صونًا للأسرة من الانزلاق إلى العيش الحرام.
وتُحذِّرُ الهيئة المسلمين كافَّةً من الاستهانة بأمرِ الطلاق، ومن التسرُّع في هدم الأسرة، وتشريد الأولاد، وتعريضهم للضَّياع وللأمراض الجسديَّة والنفسيَّة والخُلُقيَّة، وأن يَتذكَّر الزوجُ توجيهَ النبيِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّ الطلاق أبغَضُ الحلال عند الله، فإذا ما قرَّر الزوجان الطلاقَ، واستُنفِدت كلُّ طرق الإصلاح، وتحتَّم الفراق، فعلى الزوج أن يلتزم بعد طلاقه بالتوثيق أمام المأذون دُون تَراخٍ؛ حِفظًا للحقوق، ومَنعًا للظُّلم الذي قد يقعُ على المطلَّقة في مثلِ هذه الأحوال.》
هذا ما يحتمله هذا المقام، ولله الأمر من قبل ومن بعد والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آل وصحبه وسلم.