باب السنة: بغية الكمال بشرح حديث أفضل الأعمال

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد:

في الصحيحين عن أبي ذر جندب بن جنادة رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله، والجهاد في سبيله))، قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: ((أنفَسُها عند أهلها، وأعلاها ثمنًا))، قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تُعين صانعًا، أو تصنع لأخرق))، قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعُفت عن بعض العمل؟ قال: ((تكُفُّ شرك عن الناس؛ فإنها صدقةٌ منك على نفسك))

أولا: التخريج والحكم عليه:

أخرجه البخاري في "كتاب العتق" "باب أي الرقاب أفضل" حديث (2518)، وأخرجه مسلم حديث (84)،وأخرجه النسائي في "كتاب الجهاد" "باب ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل" حديث (3129)، وأخرجه ابن ماجه في "كتاب العتق" "باب العتق" حديث (2523)

وكما هو ظاهر فالحديث في أعلى درجات الصحة والحمد لله

ثانيا: فائدة حديثية من علم الحديث رواية والجمع بين روايات الأحاديث التي ظاهرها التعارض في بيان افضل الاعمال:

هذا التعارض الظاهري هو من تفضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم وبيان ذلك أن الله تبارك وتعالى اختار لصحبة نبيه هؤلاء الأخيار فهم علماء أجلاء شامة أنقياء يحرصون على الخيروالسعي إليه ونقله إلى الخلق والدلالة عليه وهى نعمة تستدعي منا الشكر و كان من حرصهم على الخير حرصهم على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الذي ينفعهم

وسؤالهم من فقههم وعلمهم:

وذاك لعلمهم رضي الله تعالى عنهم أن الجنة لا تنال بالأماني والتمني، بل لابد من عمل يدرك به الإنسان ما يؤمله من رحمة الله جل في علاه كما قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فطريق تحصيل الجنة هو العمل، مخالفة لمن فهم خطأ أو غرر به خبثا من المنتفعين فجعلوا الدين أماني و طرقا وعهودا توزعها أيادي أشياخ لبس عليهم فأسقطوا عن أنفسهم التكاليف ويا ليتهم اقتصروا على فهمهم وضلالهم على أنفسهم لكنا قلنا ضرر قاصر فلنصبر على دعوتهم والهدى هدى الله لكنهم صاروا لضلالهم دعاة وبهواهم على غيرهم من الناس قضاة فظهرت الطرق والضلالت والبدع والخرافات فيا أيها السالكون حنانيكم فهو طريق واحد لا عشرات وصراط مستقيم ليس فيه ثنيات ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدْعُو إلى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أنا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحانَ اللَّهِ وما أنا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾

فينبغي للعامل أن يبحث عن أفضل ما يوصله إلى مطلوبة وأفضل ما يقربه إلى منشودة، وذلك أن الأعمال في إيصالها إلى المطلوب على مراتب ودرجات، ليست على مرتبة واحدة بل متفاوتة الأجر والحسنات، و تحصيل ذلك بالبحث عن أفضلها وأطيبها ليس بالهوى والرغبات والنزوات.

وها هو أول هذه الأسئلة التي سألها أبو ذر رضى الله عنه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: أي الأعمال أفضل؟ وهذا السؤال تكرر من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- فسأله أبو هريرة وابن مسعود وأبوأمامة وعمرو بن عنبسة وأبوموسى الأشعري ومعاذ وربما غيرهم مما لم أقف عليه فرضى الله عنهم أجمعين.

- فمن ذلك: ما رواه البخاري (527)، ومسلم (85) عن ابن مسعود قَالَ: " سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: (الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا)، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ) قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ").

- وما روى النسائي (2222) - واللفظ له –، وغيره عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: " أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ)".

- وورى أحمد (17027) عن عمرو بن عبسة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا: حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ أَوْ عُمْرَةٌ) وصححه محقق المسند.

- وروى البخاري (11)، ومسلم (42) عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ، وَيَدِهِ)".

- وروى البخاري (2785) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ؟ قَالَ: (لاَ أَجِدُهُ)، قَالَ: (هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ المُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلاَ تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلاَ تُفْطِرَ؟)، قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟

- وسأله معاذ حيث قال: دلني على عمل يقربني من الله يدخلني الجنة أو يقربني إلى الجنة ويبعدني عن النار، فتنوعت أسئلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن أفضل الأعمال التي هي أحب إلى الله والتي هي طريق الدخول إلى الجنة.(سنن الترمذي وقال حسن صحيح)

وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث وغيرها، وكان من أفضل من أجاب شيخ الاسلام الحافظ بن حجر قال:

" مُحَصِّلُ مَا أَجَابَ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ مِمَّا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْأَجْوِبَةُ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ:

أَنَّ الْجَوَابَ اخْتَلَفَ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ السَّائِلِينَ، بِأَنْ أَعْلَمَ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، أَوْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ رَغْبَةٌ، أَوْ بِمَا هُوَ لَائِقٌ بِهِمْ.

أَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، بِأَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي غَيْرِه ِ، فَقَدْ كَانَ الْجِهَادُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّهُ الْوَسِيلَةُ إِلَى الْقِيَامِ بِهَا وَالتَّمَكُّنِ من أَدَائِهَا، وَقَدْ تَضَافَرَتِ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَفِي وَقْتِ مُوَاسَاةِ الْمُضْطَرِّ تَكُونُ الصَّدَقَةُ أَفْضَلَ.

أَوْ أَنَّ أَفْضَلَ لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا، بَلِ الْمُرَادُ بِهَا الْفَضْلُ الْمُطْلَقُ، أَوِ الْمُرَادُ: مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، فحذفت "من" وَهِي مُرَادة " انتهى من "فتح الباري" (2/ 9).

وقال شيخ الاسلام العلامة الامام ابن القيم رحمه الله:

" قد يكون العمل المعين أفضل منه في حق غيره:

فالغني الذى له مال كثير، ونفسه لا تسمح ببذل شيء منه: فصدقته وإيثاره أفضل له من قيام الليل وصيام النهار نافلة.

والشجاع الشديد الذى يهاب العدوُ سطوتَه: وقوفُه في الصف ساعة، وجهادُه أعداءَ الله: أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع.

والعالِمُ الذى قد عرف السنة، والحلال والحرام، وطرق الخير والشر: مخالطتُه للناس وتعليمُهم ونصحُهم في دينهم: أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح.

وولىُّ الأمر الذى قد نصبه الله للحكم بين عباده: جلوسُه ساعةً للنظر في المظالم، وإنصاف المظلوم من الظالم، وإقامة الحدود، ونصر المحق، وقمع المبطل: أفضل من عبادة سنين من غيره.

ومن غلبت عليه شهوة النساء: فصومُه ـ له ـ أنفع وأفضل من ذكر غيره وصدقته.

وتأمل تولية النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهما من أمرائه وعماله، وترك تولية أبى ذر، بل قال له: (إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تَأَمَّرن على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيم).

وأمر غيره بالصيام وقال: (عليك بالصوم فإنه لا عِدل له)، وأمر آخر بأن لا يغضب، وأمر ثالثا بأن لا يزال لسانه رطبا من ذكر الله.

ومتى أراد الله بالعبد كمالا، وفقه لاستفراغ وسعه فيما هو مستعد له، قابل له، قد هُيئ له، فإذا استفرغ وسعه، علا غيره وفاق الناس فيه.

وهذا كالمريض الذى يشكو وجع البطن مثلا، إذا استعمل دواء ذلك الداء: انتفع به، واذا استعمل دواء وجع الرأس: لم يصادف داءه.

فالشح المطاع ـ مثلا ـ من المهلكات، ولا يزيله صيام مائة عام، ولا قيام ليلها !!

وكذلك داء اتباع الهوى، والإعجاب بالنفس: لا يلائمه كثرة قراءة القرآن، واستفراغ الوسع في العلم والذكر والزهد، وإنما يزيله إخراجه من القلب بضده.

ولو قيل: أيما أفضل: الخبز أو الماء؟

لكان الجواب: أن هذا في موضعه أفضل، وهذا في موضعه أفضل".

انتهى من "عدة الصابرين" (ص 114-115)

وعموما: فإن شريعتنا وحي يوحى لذا فإن الخلاصة هى أن النبي –صلى الله عليه وسلم- تنوعت إجاباته لأصحابه ولنا عن أفضل العمل تنوعًا لفظيًا وإلا فالحقيقة هي متفقة في المعنى وقد بينها –صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة في البخاري حيث قال: فيما يخبر بها عن الله –عز وجل- «مَن عادَى لي وليًّا فقد آذنْتُه بالحَربِ، وما تقرَّبَ إليَّ عَبدِي بشيءٍ أحَبَّ إليَّ ممَّا افترضْتُ عليه» فأحب ما يتقرب به إلى الله تعالى الفرائض، وهو أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله –عز وجل- ورأس ذلك الإيمان.

الإيمان بالله رأس الأعمال:

ولهذا قال في حديث أبي ذر في بيان أفضل العمل قال: الإيمان بالله، والإيمان بالله هو الإقرار بالله –عز وجل- الإيمان به وبأسمائه وصفاته بإلوهيته وربوبيته، فالإيمان بالله –عز وجل- يتضمن كل هذه المعاني ويتضمن أيضًا الإيمان بكتبه وملائكته ورسله والقدر خيره وشره واليوم الآخر، فالإيمان بالله عنوان لكل أصول الإيمان التي يجب أن تقر في القلب ويؤمن بها العبد، فالإيمان هو الإقرار المستلزم للإذعان والقبول، فيقر العبد بالله –عز وجل- بما أخبر به عن نفسه، ويقر بما يجب الإقرار به من الإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.

كل هذا مندرج في أفضل العمل، في قوله –صلى الله عليه وسلم- الإيمان بالله ويلتحق بهذا أيضًا بعد الإيمان بالله ما يكون من أعمال الجوارح التي لابد منها وهي مباني الإسلام الأربعة بعد الشهادتين، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج.

حقوق الله عز وجل وحقوق العباد:

وهذه كلها في حقوق الله –عز وجل- فهي من أفضل الأعمال، بل هي أفضل الأعمال التي يتقرب بها إلى الله –عز وجل- بعد هذا تأتي فرائض الأعيان المتعلقة بالخلق كبر الوالدين وإكرام الجيران وأداء الأمانات وما أشبه ذلك من الحقوق التي فرضها الله تعالى للعبد التي فرضها للعباد من الوالدين وذوي القربى والجيران وذوي الأرحام وغيرهم ممن له حق من خلق الله –عز وجل- على الإنسان، فإن فرائضهم تلي ذلك في الفضل بعد الفرائض بأنواعها.

الفرائض التي هي لله، والفرائض التي للخلق أفضل العمل ما كان أعظم نفعًا وأجرًا، وقد أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث بأفضل العمل وهو الجهاد، وهو إذا كان فرضًا فهو داخل في الإيمان بالله، وإن كان نفلًا فهو إشارة إلى أفضل الأعمال من التطوعات، والجهاد نوعان؛

- جهاد بالسيف والسنان وهو الذي ينصرف إلى الذهن عن الإطلاق.

- وجهاد بالعلم والبيان وهو الأصل الذي يكون مبدأ العمل.

فإن الجهاد بالعلم والبيان هو الذي أمر به أولًا في قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ فينبغي للمؤمن أن يعي هذا الترتيب في فضائل العمل حتى يسابق إلى الله –عز وجل- بالتقرب إليه بالأفضل في الفرائض وفي النوافل، فانظر إلى قلبك وما حواه من عقائد من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وانظر إلى عملك فتش عن الفرائض ومدى إقامتك لها ثم بعد ذلك تقرب إليه بسائر ما يفتح الله عليك من النوافل وابحث عن الأنفع والأعلى والأقرب.

وإذا فتح لك في باب فالزمه فما كان أصلح لقلبك، فهو أفضل من غيره ( وينظر شرح الحديث في الفتح وشرح النووي على صحيح مسلم وفتح المنعم شرح صحيح مسلم)

وفي هذا القدر في شهرنا هذا الكفاية

وللحديث صلة في الحلقة القادمة إن شاء الله والحمد لله رب العالمين