الجزاء
للسيدة الجليلة: نعمت هانم صدقي
حرم الدكتور محمد رضا رحمه اللَّه
الجزاء هو الغاية التي ينتهي إليها الإنسان بعمله إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وفي هذا يقول اللَّه تعالى: {وخلق السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون}.
فهو سبحانه قد زود الإنسان بالعقل، ثم أرسل له الرسل وأنزل معهم الكتب، فبينوا له واجباته نحو ربه ونحو نفسه وغيره، وبين له سبيل الرشل من الغي ليكون مسئولاً عما قدم فيجزيه بعمله كما خبرنا اللَّه بذلك في قوله {ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} [النجم:3].
وهكذا اقتضى عدل اللَّه أن ينال كل امرئ جزاء عمله وأن يكون بما أتاه ونواه في حياته الدنيا أهلاً للنعيم أو الجحيم، وبهذا أصبح مصير الإنسان مرهونًا بعمله، ويوضح هذا قول اللَّه عزوجل: {من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد}، كما أخبر سبحانه أن الإنسان سوف يرى في موازين القسط يوم القيامة كل ما عمل من خير وشر، فقال جل شأنه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}.
وفي قوله: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}.
فهو تعالى لا يخطئ ولا ينسى ولا يظلم مثقال ذرة، فلا بد أن ينظر المرء ما قدت يداه؛ لأن اللَّه سبحانه سجل في كتاب ينطق بالحق كل أعمال الإنسان ولم يغاد صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.
ومن هنا وجب على الإنسان أن يسارع بتكفير ذنوبه، ومعنى التكفير هو الستر والتغطية وكذلك معنى المغفرة، والستر أو التغطية لا بد أن تكون بشيء يستر؛ وقد بين لنا اللَّه الطريق إلى ذلك بقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات}، وهكذا فإن الحسنات تكفر عن السيئات لأنها إذا زادت عنها ثقلت الموازين، فينجو الإنسان من سيئاته بزيادة حسناته، قال تعالى: {والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}.
إن السيئات يذهبن حسنات العاصي المصر، كما أن الحسنات يذهبن سيئات التائب المستغفر؛ فالعاقل من لا يضن بحسناته التي تعلي في النعم درجاته، فهي ثروته الخالدة التي لن يتركها، لغيره كثروته في الحياة الدنيا، بل إن هذه الحسنات هي المطية التي تحمله إلى الجنة، والمؤهل الذي يثبت جدراته برحمة ربه؛ والتقية التي تنقذه من عذاب النار، فكيف لا يحرص عليها بالطاعة والتقوى وهي أنفس وأثمن ما لديه، بل هي كل ما ادخره لنفسه، وقدمه لليوم الموعود.
إن العاقل لا يعلم أن اللَّه تعالى تقبل كل ما قدمه من حسنات حتى يحبط بعضها بعصيانه، كما أنه لا يضمن أن سيغفر له كل ما اقترف من سيئات حتى لا يسعى للتكفير عنها بطاعته، وهو لا يدري كذلك أن حسناته تزيد على سيئاته حتى يطمئن ويأمن غضب اللَّه وعقابه، كما لا يستطيع وزن كل ما يأتي من حسناته ومن سيئات؛ بل إنه لا يستطيع حصرها وعدها، بل لا يستطيع تذكرها كلها كما أخبر العليم البصير في قوله: {يوم يبعثهم اللَّه جميعًا فينبئهم بما عملوا أحصاه اللَّه ونسوه واللَّه على كل شيء شهيد}.
وأخبرنا تعالى في هذه الآية الكريمة أن المؤمن التقي الصابر ابتغاء وجه ربه الذي يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، يكفر بالحسنة السيئة، فقال سبحانه: {والذين صابروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقاهم سرًا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار}.
وشرط تعالى في التكفير عن السيئات، اجتناب الكبائر، فقال سبحانه:
{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريمًا} أي لا تكفير عن السيئات بالحسنات إلا لمن اجتنب كبائر ما نهاه تعالى عنه؛ بل إن الكافر باللَّه ونعمته، الفاسق المنافق الذي لا يصلي ولا ينفق إلا وهو كاره؛ ليس له حسنات تكفر عنه سيئاته؛ لأن اللَّه تعالى أحبطها كما قال سبحانه: {ذلك بأنهم اتبعوا ما سخط اللَّه وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}، وقوله: {أنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يتقبل منكم إنكم كنتم قومًا فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا باللَّه وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}.
فانظر كيف وصفهم اللَّه تعالى بالكفر بالرغم من صلاتهم وإنفاقهم، فالكافر أو المنافق الفاسق لن يتقبل اللَّه تعالى أعماله ولن يقيم له وزنًا؛ لأنه سيضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا، فهو قد حبطت حسناته فلا حاجة إلى وزن لما حبط من أعماله، كما أخبر تعالى في قوله: {أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا}.
وكما أن هناك حسنات حابطة لا يتقبلها اللَّه ولا يقيم لها وزنًا لأنها من كافر أو منافق، هنا سيئات يتجاوز عنها الرحمن الرحيم لأنها من مخطئ لا يدري بخطئه فلم يتعمد الإثم ولم يصر على ما فعله وهو يعلم، قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}، وقال: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا. إِلاَ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
نفهم من هذه الآيات الكريمة أن اللَّه تعالى بواسع رحمته يغفر لمن تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا، ولكنه لا يغفر أن يشرك به، ثم قال تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، أي يغفر ما دون الشرك لمن يشاء؛ ومشيئته تعالى لا تكون إلا عدلاً ورحمة، فالمغفرة تكون لمن يستحقها بتكفيره وسعيه لرضا ربه يعمل الصالحات.
وإلى عدد مقبل إن شاء اللَّه.