الدعوة إلى الجهاد في القرآن والسنة
لسماحة الأستاذ الشيخ / عبد الله بن محمد بن حميد
وكانوا يخاطرون بأنفسهم ويأتون بأعاجيب وأعمال خارقة للعادة، ثقة بنصر الله واعتمادًا على موعود كما حصل للجيوش الإسلامية بقيادة سعد بن أبي وقاص، فقد وقف أمام المدائن ولم يجد شيئًا من السفن وتعذر عليه تحصيل شيء منها بالكلية وقد زادت دجلة زيادة عظيمة واسود ماؤها ورمت بالزبد من كثرة الماء بها ..
فخطب سعد الناس على الشاطئ وقال: إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم؟ فقالوا جميعًا عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل .. ثم اقتحم بفرسه دجلة واقتحم الناس لم يتخلف عنه أحد فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملأوا ما بين الجانبين فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض .. فلما رآهم الفرس قالوا: (ديوانه - ديوانه) يقولون: (مجانين - مجانين) ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنسًا بل تقاتلون جنًا وجعل سعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه ويظهره الله دينه وليهزمن الله عدوه إن لم يكن في الجيش بغى أو ذنوب تغلب الحسنات.
(خطاب عمر بن الخطاب للقائد سعد بن أبي وقاص)
نعم كانوا يتخوفون من ذنوبهم ومن معاص الله أكثر مما يتخوفون من عدوهم ومن كثرة عدده وضخامة عدده فنجد عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يقول: في كتابه لقائده سعد بن أبي وقاص لما أرسله إلى فتح فارس ...
(أما بعد): فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل من العدو وأقوى المكيدة على الحرب .. وآمرك ومن معك من الأجناد أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجند أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإلا انتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا .. فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ولا تعلموا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا، فلن يسلط علينا .. فرب قوم سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما شملوا بمعاصي الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولاً .. واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم .. أسأل الله تعالى ذلك لنا ولكم. اهـ.
فتمسك المسلمون المجاهدون بما ذكر هذا الخليفة الراشد، وكانوا كما وصف رجل من الروم المسلمين لرجل من أمراء الروم – (فقال: جئتك من عند رجال دقائق يركبون خيولاً عتاقًا أما الليل فرهبان، أما النهار ففرسان .. لو حدثت جليسك حديثًا ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر .. قال: فالتفت إلى أصحابه وقال: أتاكم منهم ما لا طاقة لكم به ... ).
وهذا عقبة بن نافع - أراد أن يتخذ مدينة في أفريقية يكون بها عسكر المسلمين وأهلهم وأموالهم ليأمنوا من ثورة تكون من أهل البلاد فقصد موقع القيروان .. وكانت وحلة مشتبكه بها من أنواع الحيوان من السباع والحيات .. وغير ذلك .. فدعا الله وكان مستجاب الدعوة ثم نادى (أيتها الحيات والسباع: إنا أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ارحلوا عنا فإنا نازلون ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه، فنظر الناس ذلك اليوم إلى الدواب والحيات تحمل أولادها وتنتقل .. ورآه قبيل كثير من البربر .. فأسلموا). وحينما طال على المسلمين الأمد وقست قلوبهم ونسوا وتناسوا ما لأجله بعثهم الله على كثرة من الناس وتوافر من بين أمم الأرض وهو قوله:
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ..)
وصاروا يعيشون حياة لاهية دنيئة حياة من لا يعرف نبيًا ولا يؤمن برسالة ووحي، ولا يرجو حسابًا ولا يخشى معادًا وأشبهوا الأمم الجاهلية التي خرجوا يقاتلونها بالأمس عادوا فقلدوها في مدنيتها واجتماعها وسياستها وأخلاقها ومناهج حياتها .. وفي كثير مما مقتها الله لأجله وخذلها وابتلى المسلمون بتأثير الحضارة الغربية والدعايات الشرقية أصبحت بلادهم مالاً سائبًا لا مانع له .. وأصبحت دولهم فريسة لكل مفترس وطعمة لكل آكل .. وظهر معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: يوشك الأمم أن تداعي عليكم كما تداعي الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل .. ولينزعن الله من عدوكم المهابة منكم .. وليقذفن في قلوبكم الوهن .. قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت ..
ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: إذا تبايعتم بالعينة وأتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلالاً ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم ..
فهي تركوا الجهاد وطلبوا المدد من الأعداء والحماية من الكفار والتكفف لديهم والالتجاء في مواقع الخطر إليهم. فهانوا إذًا على الله ما أسمائهم الإسلامية ورغم وجود الصالحين فيهم وظهور بعض الشعائر الدينية والواجبات الشرعية في بلادهم.
يقول بعض المستشرقين: لما رغب المسلمون تعاليم دينهم وجهلوا حكمه وأحكامه وعدلوا إلى القوانين الوضعية المتناقضة المستمدة من آراء الرجال ففشا فيهم فساد الأخلاق فكثر الكذب والنفاق والتحاقد والتباغض فتفرقت كلمتهم، وجهلوا أحوالهم الحاضرة والمستقبلة وغفلوا عما يضرهم وما ينفعهم، وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون وينامون ثم لا ينافسون غيرهم في فضله ..
وهذا واقع مشاهد يحسه كل موقن ويلمسه كل غيور في كل أمة تخلت عن الجهاد وانغمست في الترف، وعبادة المادة وحب الدنيا.
يحدثنا التاريخ: ماذا فعل بالمسلمين (أشقى الأمم المغول والتتار) ما يحزن القلب ويحزن الفؤاد ويبكي العين ...
يقول ابن الأثير: لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها كارهًا لذكرها فإنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين .. ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فياليت أمي لم تلدني .. ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا ..
هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها عمت الخلائق وخصت المسلمين ...
ثم ذكر من وهن المسلمين وتسلط أعدائهم عليهم .. فقال: دخلت امرأة من التتر دارًا وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلاً ... ودخل واحد منهم دربًا فيه مائة رجل فمازال يقتلهم واحدًا واحدًا حتى أفناهم ولم يمد أحد يده إليه بسوء ووضعت الذلة على الناس فلا يدفعون عن نفوسهم قليلاً ولا كثيرًا نعوذ باللَّه من الخذلان ...
وحكى أن أحدهم أخذ رجلاً ولم يجد ما يقتله به فقال له: ضع رأسك على هذا الحجر ولا تبرح ... فوضع رأسه وبقي إلى أن أتى التتري بسيف وقتله .. قال وأمثال ذلك كثير ...
فالواجب على أهل الإسلام خصوصًا العلماء منهم وولاة الأمور أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم وأن يبثوا الدعوة لهذا الدين وينشروا محاسنه لنشئهم ليرغبوهم فيه ويرشدوا الأمة لأحكامه وحكمه كما فعل أوائلهم الأماجد .. فإنهم جاهدوا في الله حق جهاده وقاموا بالدعوة إلى الله فبينوا للأمم محاسن الإسلام وسماحته .. وبذلك امتد سلطانهم واتسعت ممالكهم وأخضعوا من سواهم لتعاليمه .. ولكن ما لبث أبناؤهم أن حرفوا وتمزقوا بعدما اجتمعوا واشتبه الحق عليهم الباطل فتفرقت بهم السبل وأصبحوا شيعًا متفرقين في آرائهم متباينين في مقاصدهم .. وكيف يحصل لهم الرقي؟ وأنى يتسنى لهم التقدم وهم يقلدون الأمم الكافرة .. يجرون وراءهم وينهجون نهجهم، ويقلدونهم في الصغير والكبير والنقير والقطير .. يحكمون بين شعوبهم بقوانين وضعية، ويصادمون الشريعة الإسلامية التي هي مصدر عزهم وفخرهم وفيهم راحتهم وطمأنينتهم.
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
نسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويوفق جميع المسلمين إلى ما فيه رضاه ..