ثمرة السلف يقتطفها الخلف
بقلم فضيلة الشيخ / محمد مخدوم
مدرس بالمسجد الحرام
في عام 1347 هـ خرجت من وطني بعد أن دخلت الشيوعية وفعلت ما فعلت مهاجرًا إلى الحرمين الشريفين، وقد يسر الله سبحانه وتعالى زاد السفر فشاهدت من أهوال الدنيا ما شاهدت، ومما رأيت تفرق كلمة رجال الدين في جميع المواطن التي وطأتها قدماي، وكل طائفة تصف الأخرى بأنها ليست على شيء - وقد كان كل هذا في وطني أيضًا - وعندما وصلت إلى أفغانستان مكثت مدة في قندهار فوجدت فيها حالة العلماء أشد مما عندنا حتى أنهم كانوا يلصقون الإعلانات على الجدران بشتم ولعن بعضهم بعضًا. ثم توجهت إلى كراتشي فوصلتها وقت صلاة المغرب، فدخلت أحد المساجد، ثم رأيت رجلاً في زي العلماء يدخل المسجد، ثم رأيت الناس يهينونه أشد الإهانة ويطردونه من المسجد، فسألت أحدهم فقال: إنه من علماء الديوينديين أما أهل المسجد فإنهم بلولوبين وكلا الطائفتين من الأحناف ويكفر بعضهم بعضًا.
ولما أكرمني الله واستقر بي المقام في مكة المكرمة سمعت كلمات من المهاجرين يطلقها بعضهم على البعض لا يليق ذكرها بمقام هذه المجلة.
وعندما ذهبت إلى المدينة المنورة دخلت المسجد لأستمع إلى درس أحد العلماء وكان من البلولويين، فأشار في حديثه إلى الديوبندبين بقوله: إنهم يجوزون "كذب الباري وهذا كفر صريح " وعندما رجعت إلى مكة اشتغلت بالتجارة وتركت حلقات الدرس فترة لاختلاف العلماء، ثم عدت إلى مواصلة الدروس ولكن عند بعض علماء نجد، وكان علماؤنا يمنعوننا من ذلك، وكنت في أحد الأيام أستمع إلى درس الشيخ أبي السمح، فقال حكاية عن شيخ الإسلام ابن تيمية: إن علامة المبتدعين تكفير بعضهم البعض، فصدقت هذا القول فورًا لما شاهدت في بلاد المسلمين، فكلهم جامدون مقلدون لم يفهموا كلمة التوحيد ولا يفرقون بينها وبين الشرك.
وفي موسم الحج تجمع عدد كبير من الناس يستمعون إلى عالم مصري عند المحراب الحنفي يتكلم في تفسير سورة الفاتحة وكان معه أربعة أشخاص من زملائي خرجنا لزيارة موسى جاد الله، فوجدناه جالسًا يستمع لدرس ذلك العالم، وبعد انتهاء الدرس، قال موسى: إن هذا الشخص لا بد وأن يكون من تلاميذ محمد عبده أو رشيد رضا فكلامه مثل كلامهما، وقد كان من أساتذتي فواظبت أنا وزملائي على دروس ذلك العالم عشرة أيام، وكان زملائي أفهم مني للغة العربية، وكان فيما بيننا يمشي ساعاتي، وهو كوثري الجركسي - فقال: إن كلامه يخالف مذهب إمامنا الأعظم، وهو على هذا الرأي حتى الآن.
وبعد الحج سافرت إلى الصين مدرسًا بالمدارس المتوسطة والكليات، ومكثت هناك أربع سنوات، ثم عدت إلى مكة المكرمة فوجدت ذلك العالم المصري جالسًا على كرسي أمام المسجد، فقالوا: هذا رئيس أنصار السنة المحمدية ويدعى الشيخ محمد حامد الفقي - رحمه الله - وبعد انتهاء الدرس ازدحم الناس على الشيخ فلم أتمكن من التعرف عليه كثيرًا، فأعطيته هدية صغيرة، وهي عبارة عن عطر مسك في صرة غزال من الصين ولم أتمكن بعد ذلك من مقابلته حتى انتهى موسم الحج. وفي العالم التالي جلس للدرس ثم قال: في العام الماضي أعطاني رجلاً مسكًا، فهل هذا الرجل موجود بينكم؟ فقمت وعرفته بنفسي، فقام وعانقني، ولقد كنت من أحسن المواظبين على صحبته في كل عام ولقد حججنا سويًا ماشين على الأقدام - رحمه الله - ومرة أعطاني ثلاثمائة ريال وقال لي: اذهب إلى مصر وهنالك نصاحبكم، فأقمت عنده ستة أشهر وتشرفت بصحبته، لاسيما عندما كنت معه عند تصحيحه مختصر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية بالاشتراك مع شيخ الأزهر فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم (رحمه اللَّه).
وبعد انتقال الشيخ إلى رحمته تعالى حرمنا فترة من دروسه ثم من مجلة الهدي النبوي. ولكن وللَّه الحمد اقتطفنا ثمرة السلف عن الخلف حيث حضر إلينا الشيخ رشاد الشافعي بمكة ولقد واظبت على محاضراته في المسجد الحرام ولقد أكرمنا الله فوجدناه ما افتقدناه منذ زمن ولا سيما في المجلة الجديدة (مجلة التوحيد) وأشكر القائمين عليها وأدعو لهم بالتوفيق والسداد، وجزاكم الله خير الجزاء.