التائهون في الظلام
للأستاذ محمد فتحي محمود
كم يصادف الإنسان تائهين في ظلام قد خلقوه بأنفسهم وارتضوا أن يعيشوا في هذا المناخ الذي يحجب عنهم نورًا ما أسعدهم لو أنهم أوقدوا شموعًا لرأوا الحق أبيض أبلج، ناصعًا تتلاشى أمام جحافلة تلك الأوهام التي تتعمد أن تنحرف بأصحابها عن الطريق السديد.
وأن التائهين في الظلام منهم المخلص الحائر الذي تضعف فيه حاسة التمييز فلا يستطيع أن يختار، ومنهم المقلد المجامد الذي درج زمنًا طويلاً على الحياة في هذا الظلام، حتى ألفه وأصبح جزءًا من كيانه. فمن العسير أن يفارقه، ومنهم المتشهى بكل غريب يشبع به شهوة غروره ويملأ به هواه، ومنهم الجريء الذي يغلي عن فكره كل معيار ويتمرد على كل فن معترف به ويخرج على كل علم مسلم به لأنه يحد من انطلاقه، ومنهم من غلبت عليهم العواطف الفارغة، ومنهم المهووس الذي يشبه ((البراغيث الهائجة)) يكثر التردد على الأندية، ويغشى المجتمعات المتنافرة، ويتأثر بالفكرة وضدها لا يستقر له قرار ولا تهدأ نفسه ساعة. من نهار يهيج ويهدأ، ويحب حبًا عارمًا، وسرعان ما ينقلب على محبوبه ناهشًا فاضحًا، حياته اضطراب، وسلوكه اعوجاج، وأفكاره سراب، وفؤاده هواء.
وأنا حين أكتب الآن عن التائهين في الظلام، لا أريد أن أكتب عن هؤلاء الذين يطالبون المعلمين بأن يكون لهم مصدر واحد فحسب، وهو القرآن، ولست أدري كيف جهل هؤلاء القرآن الذي كثيرًا ما يحيل على الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا}، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، {قل إن كنتم تحبون اللَّه فاتبعوني يحببكم الله}، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((يوشك أن يكون أحدكم متكئًا على أريكته فيحدث بحديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله ما فيه من حلال حللناه وما فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول اللَّه مثل ما حرم اللَّه)).
ونسأل هؤلاء عن كيفية الصلاة في القرآن والأذان ومواقيت الصلاة وأنواع الزكاة وأنصبتها وتحريم الجمع بين البنت وخالتها والبنت وعمتها وعن شارب الخمر وعن بعض البيوع المحرمة، وعن تحريم أكل الحمر الأهلية والحيوانات المفترسة والطيور الجارحة إلى غير ذلك من الأمور التي لا تستطيع حصرها لا شك أن هذه دعوة باطلة مقضى عليها بالفناء.
وكذلك لا أريد أن أكتب عن هؤلاء الذين شغفوا بضعيف الأحاديث ومكذوبها، والذين نرى كثيرًا منهم قد اتخذ منابر المسلمين مصبًا لمثل هذه الأحاديث التي نراها تجرى على ألسنة العامة والخاصة، ولعلنا نستمع إلى فضيلة الشيخ صقر في التليفزيون وهو يكشف هذا الكذب ويفضح هذا التضليل ويكفى أن رسولنا قال: ((من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)). وأن أمثال هذه الأحاديث ليصبها مجموعة من المشايخ لا سيما مشايخ الطرق في أدمغة الناس، بذلك يكون لها من الآثار السيئة التي تضر بعقيدة المسلمين وتبعدهم عن ربهم وتشدهم إلى عبادة غير الله من المقبورين ومن المشايخ الذي يشرعون لهم من الدين ما لم يأذن به اللَّه، ويفسدون كذلك بها أخلاق المسلمين من الكسل والتواكل والرضا بالذل والاعتماد على القدر المجهول إلى غير ذلك.
ولا أريد كذلك أن أكتب عن هؤلاء الذين يتهجمون على السنة بغير ما وضع لهذه السنة من علوم ضابطة يمكن بها تقييم السنة من حيث الرواية والدراية، بل أن البعض من هؤلاء حداث الأسنان، ممن هو في حاجة إلى قراءة وتجارب يتطاول تطاولاً مشينًا على أصدق كتاب بعد كتاب اللَّه وعلى خير من بذل جهدًا لجمع الأحاديث في غير ما ورع ولا احتشام، ويقول هذا حديث تحت النعل وينبغي أن يبال عليه فلا أجد غرورًا ولا قحة. بل جهلاً وراء ذلك بل هناك من الشيوخ ممن استطال بهم الأجل وأصبحوا على حافة القبر يتلذذون بالتهجم على السنة الصحيحة بأسلوب أقل ما يقال فيه الغرور والرياء والسمعة وعدم الورع والجرأة على دين اللَّه.
أما الذي أحب أن أحذر منه دعوة جديدة نابية، لو أن اليهود أو غيرهم من أعداء الإسلام قد سلطوا على هدم الإسلام ما كانوا بأشد هدمًا للإسلام من هؤلاء الذين يبالغون مبالغة ويغلون مغالاة تتضاءل معها مبالغة ومغالاة الخوارج. هؤلاء الذين أول ما يدعون إلى بطلان الصلاة في المساجد لأن جميع المساجد مساجد ضرار، لأن الحاكمية ليست على الأرض ويعنون بالحاكمية إقامة الحدود، وهم يعتزلون الصلاة في المساجد ولا يصلون وراء غير تابع لهم، لأن صلاة غير الأتباع باطلة، ويغلب على ظني أن هذه دعوى فيها رائحة نتنة. ولعل هذه الدعوة يحركها أعداء الإسلام لهدم الدين لأن المساجد للتنفس الباقي للإسلام والأماكن التي يمكن لو أحسن استعمالها لعاد للدين مجدده وسلطانه والحكم على مسجد بأنه ضرار لا يكون إلا بوحي ولعل هؤلاء يتوهمون أن وحيًا يوحى إلى كبيرهم، ولقد أوحي إلى كبيرهم هذا أن حريًا ذرية ستحدث بعد عشر سنوات وستدمر فيها الأسلحة الحديثة، وسيحارون بالسيوف لينصروا الإسلام.
إن محاربة المساجد كفر وخروج على الإسلام {ومن أظلم ممن منع مساجد اللَّه أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها}، واللَّه يعظم من شأن المساجد: {في بيوت أذن ترفع ويذكر فيها} ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله ((ورجل قلبه معلق بالمساجد)).
ويحكم هؤلاء على المسلمين بالكفر ما لم يهاجروا ولست أدري إلى أين يهاجرون ويأتون بأدلة لا تخلو من مغامز وتتعارض مع الصحيح من الحديث والقرآن فمنها قول الرسول: ((أنا بريء من كل مسلم بين أظهر المشركين)) بهذا الحديث يحكمون على المسلمين بالشرك، وماذا يكون الوضع على فرض صحة الحديث إذا كان المشركين من أظهر المسلمين وكذلك مما يستدلونه به ((من جاء مع المشرك وسكن معه فهو مثله))، والعجيب أن الرسول كان مجتمعًا في المدينة عند الهجرة مع المشركين ((وبني قينقاع)) و ((بني النضير)) ((وبني قريظة)) والمنافقين ومات وهو على عهد مع يهود خيبر، والاختلاط بغير المسلم سواء كان كتابيًا أو مشركًا جائز وفي ذلك يقول: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم}.
أما الهجرة التي يكفرون من لا يؤمن بها فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لا هجرة بعد الفتح ولكنه جهاد ونية .. )) ويروي البخاري عن عائشة. ((انقطعت الهجرة منذ فتح الله على نبيه)) ألا فليراجع هؤلاء النصوص الصحيحة وإن فكرتهم ولدت موردة محكوم عليها بالفشل لأنها لا تتفق وطبيعة الإسلام التي تكره الانعزاليا، إنما يأكل الذئب من الشاة القاصية. ويحذر الشباب الذي يقع في براثن هؤلاء من أن نستجيب إلى هذه الأفكار المهورة.