عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام في كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر (متفق عليه).
تحدثنا في العدد الماضي عن الوصية، واليوم نتحدث عن الخلة.
قال ابن الأثير في النهاية: الخلة - بالضم- الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلاله، أي في باطنه، والخليل: الصديق، فعيل بمعنى مفاعل، وقد يكون بمعني مفعول، وإنما قال ذلك لأن خلته كانت مقصورة على حب الله تعالى، فليس فيها لغيره متسع ولا شركة من محاب الدنيا والآخرة.
وهذه حالة شريفة لا ينالها أحد بكسب واجتهاد فإن الطباع غالبة، إنما يختص الله بها من يشاء مثل سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه.
ومن جعل الخليل مشتقًا من الخلة وهي الحاجة والفقر أراد: إني أبرأ من الاعتماد والافتقار إلى غير الله تعالى. (اهـ).
قال الراغب: الخلة: المودة، إما لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها، وإما لأنها تخل النفس فتؤثر فيه تأثير السهم في الرمية، وإما لفرط الحاجة إليه.
وحاصل أقوال أهل اللغة يجعلنا نفهم الخلة على أقسام: أشرفها: خلة إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلى الله تعالى، وهي خلة اصطفاء واختيار، وهي ليست كسبية وهي خلة من جانب واحد، وتعني الافتقار والاعتماد لذا قال النبي صلي الله عليه وسلم: (إني أبرأ أن يكون لي منكم خليل، فإن صاحبكم خليل الرحمن) فأي لأنه استغنى عن الخلق بالافتقار إليه؛ فصار بفقره لله غنيًا عن كل خلقه.
ومنها: خُلة الصحابة ثم الصحابة من بعده على مراتب، ولذا فلقد كثر عن بعض الصحابة كأبي هريرة وأبي الدرداء وأبي ذر أن يقولوا عن النبي صلي الله عليه وسلم خليلي؛ لفرط شعورهم بالحاجة إليه.
وأما أبو بكر رضي الله عنه فإنه ما زال بعد وفاة النبي جانبهم إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم، وهي خلة تتفاوت بدرجة القرب، وأعلاها: ما كان من أبي بكر الصديق رضي الله عنه صلي الله عليه وسلم في ضعف وهزال حتى مات رضي الله عنه.
والدرجة الثالثة من الخلة هي: خلة الأقران، وهي التي تكون من الجانبين، فيكون كل واحد للآخر خليلاً، وتكون بين الخيرين أو الشريرين، وجاء فيها حديث أبي داود والترمذي (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) ومنه قوله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزخرف: 67].
وقد ذكر ابن كثير - رحمه الله - في تفسير الآية الكريمة عن علي رضي الله عنه (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزخرف: 67].
قال: خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فتوفي أحد المؤمنين وبُشر بالجنة فذكر خليله فقال: اللهم إن فلانًا خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر وينبئني أني ملاقيك.
اللهم فلا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني، وترضى عنه كما رضيت عني فيقال له: اذهب فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيرًا وبكيت قليلاً.
قال: ثم يموت الآخر فتجتمع أرواحهما فيقال: ليثن أحدكما على صاحبه، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: نعم الأخ، ونعم الصاحب، ونعم الخليل.
وإذا مات أحد الكافرين وبشر بالنار ذكر خليله فيقول: اللهم إن خليلي فلانًا كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك.
اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني، وتسخط عليه كما سخطت علي.
قال: فيموت الكافر الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: بئس الأخ، وبئس الصاحب، وبئس الخليل (رواه ابن أبي حاتم).
* محبة الرسول صلي الله عليه وسلم: وفي هذا الحديث قول أبي هريرة وأبي ذر وأبي الدرداء (أوصاني خليلي - أو قال: حبيبي).
فلقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يحبون رسول الله صلي الله عليه وسلم أكثر من كل شيء، ويبذلون المهج والقلوب فضلاً عن الأموال حياله، و لا يقدمون شيئًا على حبه صلي الله عليه وسلم.
قال العيني في العمدة: أقسام المحبة ثلاثة: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة رحمة وإشفاق كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة الناس بعضهم بعضًا.فجمع عليه السلام ذلك كله.
قال القاضي عياض: ومن محبته نصر سنته، والذب عن شريعته، وتمني حضور حياته فيبذل نفسه وماله دونه، وبهذا يتبين أن حقيقة الإيمان لا تتم إلا به، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إنافة قدر النبي صلي الله عليه وسلم ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومتفضل، ومن لم يعتقد ذلك واعتقد سواه فليس بمؤمن.
ولقد ذكر العيني أن جماع معاني وأسباب المحبة كلها موجودة في رسول الله صلي الله عليه وسلم لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال أنواع الفضائل وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايتهم إلى الصراط المستقيم ودوام النعيم، ولا شك أن الثلاثة فيه أكمل مما في الوالدين.
وقال ابن حجر في الفتح: والمراد بالمحبة هنا حب الاختيار لا حب الطبع.
وقال: ومن محبته نصر سنته والذب عن شريعته وقمع مخالفيها، ويدخل من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فمن تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلي الله عليه وسلم الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إما بالمباشرة وإما بالسبب علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي والنعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات؛ فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره، لأن النفع الذي بسبب المحبة حاصل فيه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه، ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم من هذا المعنى أتم، لأن هذا ثمره المعرفة وهم بها أعلم.
وإنه لمن المشاهد المعروف أن كل من آمن بالنبي صلي الله عليه وسلم لا يخلو من وجدان تلك المحبة الراجحة غير أنهم يتفاوتون.
منهم من أخذ من تلك الرتبة الحظ الأعلى، ومنهم من أخذ منها الحظ الأدنى، وذلك لأنه في الشهوات مستغرق محجوب واقعٌ في الغفلة أكثر الأوقات، لكن لذكر النبي صلي الله عليه وسلم عنده الاحترام والحب والإجلال.
أم الطائفة التي لا تجد من ذلك شيئًا إنما إذا وجدت متعلقًا بالطاعة أو عاملاً بالسنة ثارت نفوسهم كراهية، لا يستطيعون إخفاءها فليس لهم من هذا الحب الواجب نصيب، بل دل ذلك على شدة المرض في القلوب، وتمكن النفاق منها وفقدان الإيمان في أصله وإن ادعى بلسانه فالقلب منه خراب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* محبة الرسول صلي الله عليه وسلم أرجى أعمال العبد عند الله:
عن أنس قال: جاء رجل إلى النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى قيام الساعة ؟ فقام النبي صلي الله عليه وسلم إلى الصلاة، فلما قضى الصلاة قال: (أين السائل عن قيام الساعة) قال الرجل: أنا ذا يا رسول الله، قال: (ما أعددت له) قال: يا رسول الله والله ما أعددت لها كثير صلاة أو صوم، ولكن أحب الله ورسوله، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب وأنت مع من أحببت) قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بها.
أخرجه البخاري.
وفي رواية فقال أنس: فأنا أحب رسول الله صلي الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم في الجنة وإن لم أعمل بمثل عملهم.
ومن هنا ينبغي أن نحذر الشيعة الذين يبغضون الصحابة وكذلك الخوارج وكل من يكره العلماء والأولياء، فإن الله يجمع المتحابين معًا، والصحابة والأولياء في الجنة، ومن يكرههم لا يدخل معهم فتدبر حماك الله تعالى.
* محبة الرسول صلي الله عليه وسلم واجبة بالقرآن والسنة:
قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
والآية الكريمة ليست -فحسب - دالة على وجوب المحبة بل على وجوب أن تكون أكثر من محبة الأصل والعشيرة والأموال والمتاع والمساكن المحببة إلى الناس.
وفي الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
ولما سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم عمر يقول: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي.
فقال له النبي صلي الله عليه وسلم: (لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه) فقال عمر: والذي نفسي بيده الآن أنت أحب إلى من نفسي التي بين جنبي، فقال له رسول الله صلي الله عليه وسلم: (الآن يا عمر) (أي: الآن آمنت يا عمر) ويقول النبي صلي الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف به في النار).
* محبة الرسول صلي الله عليه وسلم لها ثمار: وثمارها هي الطاعة والمتابعة والاقتداء به، وتوقيره والشوق إليه، والعمل لمرافقته في الجنة، ومحبة أهل بيته وصحابته، والإكثار من الصلاة عليه خاصة في الأوقات التي نبه عليها في أحاديثه الشريفة (1).
ومعنى الطاعة للرسول صلي الله عليه وسلم، أي: فعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه.
ومتابعته هي التمسك بسنته بالمحافظة على الفرائض والاجتهاد في النوافل (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران: 31].
فمتابعته تنفي البدعة وتلزم بالسنة وتجعل صاحبها يتخذ من الرسول صلي الله عليه وسلم الأسوة الحسنة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21].
ومن أحب رسول الله صلي الله عليه وسلم عظمه وأكبره وأجله واتبع أمره (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[الحجرات: 1]
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُون) [الحجرات:2] .
ويقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيم)[الحجرات: 3].
يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)[آل عمران: 31].
هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ولهذا قال: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)[آل عمران: 31].
أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول.
كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأن أن تُحب إنما الشأن أن تُحبَ.
وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)[آل عمران: 31].
وقال القرطبي في تفسيرها: قال سهل بن عبد الله: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي صلي الله عليه وسلم، وعلامة حب النبي صلي الله عليه وسلم حب السنة.
وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي وحب السنة وحب الآخرة أن يحب نفسه، وعلامة حب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزاد والبُلغة.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:(إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السماء - قال -: ثم يوضع له القبول في الأرض، و إذا أبغض عبدًا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضه - قال -: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه.. - قال - فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض).
وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إن الله قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه)، ونكتفي بهذا القدر اليسير في شأن المحبة ونكمل الحديث.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (لا أدعهن حتى أموت) يقول الحافظ في الفتح: يحتمل أن يكون (لا أدعهن...) من جملة الوصية أي: أوصاني أن لا أدعهن، ويحتمل أن يكون إخبار الصحابي بذلك عن نفسه، أي: أنه رضي الله عنه لا يدعهن.
وهذا شأن المحب مع محبوبه، يتمسك بوصاياه ويحرص على هديه خاصة إذا كان المحبوب مؤدبًا مربيًا.
كيف وهو رسول الله صلي الله عليه وسلم، ولذلك ففي البخاري أن النبي صلي الله عليه وسلم أوصى ابنته فاطمة وزوجها عليًا بالتسبيح قبل النوم.
يقول علي رضي الله عنه: فما تركتها منذ سمعتها من النبي صلي الله عليه وسلم، قيل له: ولا ليلة صفين قال: ولا ليلة صفين.
وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب فكان يتعاهد كنته فيسألها عن بعلها فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشًا، ولم يفتش لنا كنفًا منذ أتيناه.
فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلي الله عليه وسلم فقال: (القني به) فلقيته بعد، فقال: (كيف تصوم ؟) قلت: كل يوم. قال: (وكيف تختم) قلت: كل ليلة. قال: (صم في كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر). قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: (صم ثلاثة أيام في الجمعة) (1) قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: (أفطر يومين وصم يومًا). قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك قال: (صم أفضل الصوم، صوم داود: صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة). فليتني قبلت رخصة رسول الله صلي الله عليه وسلم وذاك أني كبرت وضعفت، فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار، والذي يقرأه يعرضه من النهار ليكون أخف عليه بالليل، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أيامًا وأحصى وصام مثلهن. كراهية أن يترك شيئًا فارق النبي صلي الله عليه وسلم (البخاري) فانظر كيف كانوا يحبون أن يعملوا بما تركهم رسول الله صلي الله عليه وسلم عليه، بل إن الأمر يزداد وضوحًا بحديث مسلم قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو خالد - يعني سليمان بن حبان - عن داود ابن أبي هند عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس قال: حدثني عنبسة بن أبي سفيان - في مرضه الذي مات فيه بحديث يتسار إليه - قال: سمعت أم حبيبة رضي الله عنها تقول: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت في الجنة) قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلي الله عليه وسلم، وقال عنبسة: فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة، وقال: عمرو بن أوس: ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة، وقال النعمان بن سالم: ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوس.
فانظر - رعاك الله - إلى الحرص على العمل بوصايا النبي صلي الله عليه وسلم وكيف أن أهل العلم يتناقلون العلم والعمل به.
ولقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، وفي رواية للبخاري عن عائشة أنها قالت: كان أحب العمل إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه.
فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتأسون برسول الله صلي الله عليه وسلم في فعله ويتنافسون في الطاعات والخيرات ويعملون بوصاياه لذلك كانوا إخوة متحابين قد أزال الله الشحناء والبغضاء من قلوبهم فكانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم.
فلما تغير حال الناس وملأت الدنيا قلوبهم وتعلقوا بها هانوا على ربهم، فهانوا في أعين أعدائهم وصار بأسهم بينهم شديد، والله عز وجل يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
فلما غيروا الطاعة إلى المعصية والتعلق بالآخرة إلى التعلق بالدنيا، غير الله عزهم هوانًا ورفعتهم ضعةً وقوتهم ضعفًا، فإن عادوا إلى ربهم وفاءوا إلى رشدهم ورجعوا طائعين لدينهم مقتدين بنبيهم سائرين على ما شرعه ربهم يؤدون الفرائض ثم يتنافسون بعد ذلك بالنوافل؛ أعاد الله العز والنصر إليهم ورفع تاج السيادة على رءوسهم وخافهم أعداؤهم، فالطاعة الطاعة عباد الله.
الفرائض كاملة ثم النوافل نتنافس فيها، يكون الملك لنا ناصرًا مؤيدًا.