نظرات في كتاب الرسالة للشافعي (1)
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أن محمدًا عبده و رسوله، و بعد :
فكتاب الرسالة للشيخ الإمام محمد بن إدريس الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ هو أجل و أعظم كتب أصول الفقه، و هو أول مصنف في هذا العلم .
و مؤلفه الإمام الشافعي هو أول واضع لهذا العلم فله الأولية فيه، فكل من جاء بعده عيال عليه، و كتابه الرسالة هو إمام هذه الكتب الموضوعة بعده، فهي منسوجة على منواله .
و أرى من الفائدة قبل البدء في هذا المقال أن أمهد له بمقدمة تبين أهميته، و توضح المراد به، فأقول، و بالله تعالى التوفيق و السداد :
علم أصول الفقه من علوم الآلة ـ علوم الوسائل ـ : و يقصد به القواعد و الأصول التي يتمكن بها الفقيه من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية .
فهو قواعد كلية، كقولهم : الأصل في الأمر الوجوب، و في النهي التحريم، العموم ظني في دلالته، و ما شابه ذلك .
فهو الذي يضبط للفقيه النظر و الاستنباط و يقوِّم له طرق الاستدلال، و كلما كانت أصول الفقيه صحيحة كلما صح بذلك فقهه و علا قدره، وصفا له ما تكدر لغيره .
ولذا كانت عناية سلفنا بهذا العلم الشريف عناية فائقة، فصنفوا فيه المصنفات الكثيرة ما بين مطول ومختصر، و تفننوا في ذلك تفننًا .
موضوع هذا العلم :
يبحث هذا العلم في ثلاثة مواضيع إجمالاً :
الموضوع الأول : معرفة دلائل الفقه إجمالاً .
وأدلة الفقه تنقسم إلى قسمين اثنين :
أ ـ أدلة أصلية .
ب ـ أدلة غير أصلية ( تبعية ) .
فالأدلة الأصلية هي : الكتاب والسنة، و هي متفق عليها .
والأدلة غير الأصلية ( التبعية ) تنقسم إلى قسمين :
الأول : قسم متفق عليه بين جمهور الأمة و هو :
1 ـ الإجماع .
2ـ القياس .
الآخر : قسم مختلف فيه، و منه :
1 ـ الاستحسان .
2 ـ الاستصحاب.
3 - المصالح المرسلة .
الموضوع الثاني : معرفة كيفية الاستفادة منها .
أي: ومعرفة كيفية استفادة الفقه من هذه الأدلة، أي: استنباط الأحكام الشرعية منها.
و هذا القسم من العلم هو أهم أقسام علم الأصول، بل هو لبُّ لباب هذا العلم، و هو مجال استنباط الفقيه للأحكام المكتسبة من الأدلة التفصيلية، و كلما استقامت للفقيه أصول هذا القسم كانت حجته أرجح فهو الذي يضبط للفقيه النظر و الاستنباط و يقوِّم له طرق الاستدلال .
و في هذا القسم من هذا العلم الشريف يُقَعِّدُ الأصولي القواعد التي يستطيع بها الفقيه استفادة الأحكام من الأدلة، فهي وجوه دلالة هذه الأدلة سواء كانت هذه الأدلة نقلية أو عقلية.
و هذا الموضوع سماه الغزالي طريق استثمار الأدلة، قال في المستصفى ( 1 /41 ) :
« القطب الثالث: في طرق الاستثمار، و هي أربعة :
الأولى: دلالة اللفظ من حيث صيغته، وبه يتعلق النظر في صيغة الأمر و النهي و العموم و الخصوص و الظاهر و المؤول و النص .
و النظر في كتاب الأوامر و النواهي و العموم و الخصوص نظر في مقتضى الصيغ اللغوية .
ـ و أما الدلالة من حيث الفحوى و المفهوم فيشتمل عليه كتاب المفهوم و دليل الخطاب .
ـ و أما الدلالة من حيث ضرورة اللفظ واقتضاؤه فيتضمن جملة من إشارات الألفاظ كقول القائل: أعتق عبدك عني، فتقول: أعتقت .
فإنه يتضمن حصول الملك للملتمس و لم يتلفظا به ؛ لكنه من ضرورة ملفوظهما و مقتضاه.
ـ و أما الدلالة من حيث معقول اللفظ فهو كقوله -صلى الله عليه وسلم- : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » [رواه البخاري (7158 )، و مسلم (1717) من حديث أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ .]
فإنه يدل على الجائع و المريض و الحاقن بمعقول معناه، و منه ينشأ القياس و ينجر إلى بيان جميع أحكام القياس و أقسامه . »
الموضوع الثالث : معرفة حال المستفيد .
أي : طالب الحكم الفقهي من الدليل التفصيلي، وهو المجتهد فيتعرض هذا العلم لبيان:
ـ معنى الاجتهاد .
ـ معنى التقليد .
ـ بيان شروط المجتهد .
ـ بيان مراتب المجتهدين
ـ بيان حكم التقليد، ومتى يحل ؟
ـ بيان شروط التقليد .
ـ بيان متى يحل للمجتهد التقليد ؟
ـ آداب المفتي و المستفتي .
و نحو هذه الأبواب الإجمالية، التي يحتاج إليه الناظر في هذا العلم العالي القدر .
فهذه هي موضوعات هذا العلم الشريف .
متى نشأ هذا العلم ؟
نشأ هذا العلم مع نشأة علم الفقه، فهو مصاحب له من حيث النشأة .
فلا فقه بلا مناهج استدلال، ولا قواعد ضابطة .
وقد أشار لبعض مباحثه النبي -صلى الله عليه وسلم- :
كقوله -صلى الله عليه وسلم- للخثعمية عندما سألته عن أداء الحج عن أبيها الكبير الذي لا يستطيع الحج : «أرأيت إن كان على أبيك دين فقضيتيه أينفعه ذلك؟
قالت : نعم .
قال : فدين الله أحق بالقضاء » [ رواه البخاري (1513)، ومسلم (1334) .]
فأشار النبي -صلى الله عليه وسلم- للقياس وأرشد إليه، وبين الجامع بين الأصل والفرع وهو العلة .
ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم- : « لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم » [ رواه مسلم ( 1337) وروى البخاري القطعة الأخيرة منه (7288) .]
فبين أن الأصل في الأمر الوجوب .
ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- : « هل هو إلا بضعة منك ؟ » [ أخرجه أحمد (4/22، 23)، وأبو داود (182)، والترمذي (85)، والنسائي (165)، وابن ماجه(483). ]
فأشار إلى علة عدم النقض بالمس .
وقد كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ممن كانت تدور عليهم الفتوى على علم تام بهذا العلم، وإن لم يعرفوه بهذا الاسم .
فقد كانوا على علم باللغة العربية وأساليبها، و بها يعرف العام والخاص، والمطلق والمقيد، والحقيقة والمجاز، وواضح الدلالة و مراتبه، و خفي الدلالة و مراتبه، والنص، والإشارة والمفهوم، وما يفيد الوجوب وما يفيد التحريم ...
كما عاصروا التنزيل فعرفوا أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، ورأوا تنزيل النبي-صلى الله عليه وسلم- للنصوص على الوقائع المختلفة .
و أخذوا القرآن و السنة مشافهة من النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو من بعضهم و هم عدول، فعرفوا ما يستدل به من غيره .
وعنهم أخذ التابعون، و من بعدهم فقد كان علم الأصول مختلط بعلم الفقه لا ينفك عنه، يؤخذ بأخذ الفقه .
ثم ظهرت في أواخر عهد التابعين مدرستان :
إحداهما : مدرسة أهل الحديث و الأثر، و تمركزت بالحجاز، و خاصة المدينة النبوية.
و جعلت جل اهتمامها جمع حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانوا أوعية للعلم حافظين للسنن والآثار، إلا أنهم نادرًا ما أخذوا بالقياس، وكانوا يقفون عند ظواهر النصوص ؛ وذلك لكثرة ما عندهم من الآثار عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الأعلام .
قال عنهم الإمام فخر الدين الرازي مناقب الإمام الشافعي ( ص 66 ) . « الناس كلهم كانوا قبل زمان الشافعي فريقين: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي.
أما أصحاب الحديث : فكانوا حافظين لأخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكلما أورد عليهم أصحاب الرأي سؤالاً أو إشكالاً بقوا على ما في أيديهم عاجزين متحيرين . »
وظهرت مدرسة أخرى: عرفت بمدرسة الرأي، و تمركزت بالعراق وهم أهل الكوفة،وصرفت جل اهتمامها إلى الفقه ذلك أنهم رأوا أن جل الأحكام معللة، معقولة المعنى فصرفوا جهدهم لمعرفة علل الأحكام، ووضعوا قواعد وضوابط لقبول السنن والأخبار ذلك أنه ظهر لديهم أهل الأهواء والبدع، فإذا جاءتهم السنن عرضوها على تلك الضوابط فإن خالفتها ردوها وتحرجوا من قبولها .
قال عنهم الإمام فخر الدين الرازي في إرشاد الطالبين في الموضع السابق « وأما أصحاب الرأي فكانوا أصحاب الجدل والنظر إلا أنهم كانوا فارغين من معرفة الآثار والسنن، وهي مدرسة الكوفة .»
وعاب أهل كل مدرسة ما عليه أتباع المدرسة الأخرى، و رمتها بقوارس الكلمات، و تراشقت معها بخشن الألفاظ، و حوشي الاتهامات.
فرمى أهل الحديث أهل الرأي بأنهم يأخذون بالظنون، ويحكمون آراء الرجال في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى قال أبو مزاحم الخاقني:
«أَهْلُ الْكَلَامِ وَأَهْلُ الرَّأْيِ قَدْ عَدِمُوا عَلِمَ الْحَدِيثِ الَّذِي يَنْجُو بِهِ الرَّجُلُ
لَوْ أَنَّهُمْ عَرَفُوا الْآثَارَ مَــا انْحَـــرَفُوا عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، لَكِنَّهُمْ جَهِلُــوا »
[شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي (2/ 143) ]
ورمى أصحاب الرأي أصحاب الحديث بالجمود وقلة الفهم .
حتى قال قائلهم عائبًا أصحاب الحديث :
« زَوَامِلُ لِلأَخْبَارِ لا عَلْمَ عِنْدَهُمْ بِجَيِّدِهَا إِلا كَعِلْمِ الأَبَـاعِــرِ
لعَمرُكَ مَا يَدْرِي الْبَعِيرُ إِذَا غَــدَا بِأَحْمَالِهِ أَو رَاحَ مَا فِي الْغَرَائِرِ»
[هذان البيتان لمروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة هجا بهما رواة الشعر بأنهم لا يعلمون ما هو رغم استكثارهم من روايته فقال: زوامل للأشعار لا علم عندهم ...
فحرفت للأشعار إلى للأخبار أو للأسفار، ليذم بهما أهل الحديث، الذين لايعرفون فقهه. ]
أضف إلى هذا كثرة الفتوح، و اختلاط اللسان العربي بغيره من الألسنة، حتى فشت العجمة، و انتشر اللحن حتى بين بعض أبناء العرب الأقحاح، وفقدت الملكة اللسانية سلامتها، وكثرت الاشتباهات والاحتمالات، وتشعبت طرق المجتهدين .
فلما ظهرت الحاجة قيض الله لهذا العلم من جمع مباحثه وبينها وأوضحها للناس فانفصلت عن الفقه علمًا مستقلًا له حدوده المميزة،و تأخر ذلك حتى أواخر القرن الثاني عندما دونها الشافعي في رسالته المشهورة لعبد الرحمن بن مهدي ـ وهو شاب ـ عندما أرسل إليه يسأله أن : « أن يضع له كتابًا فيه:
معاني القرآن
ويجمع فنون الأخبار فيه
وحجة الإجماع
وبيان الناسخ والمنسوخ من القران والسنة » . [تاريخ بغداد ( 2 / 64، 65 ) ] .
قال علي بن المديني: « قلت : لمحمد بن إدريس الشافعي أجب عبد الرحمن بن مهدي عن كتابه فقد كتب إليك يسألك وهو متشوق إلى جوابك .
قال : فأجابه الشافعي .
وهو كتاب الرسالة التي كتبت عنه بالعراق و إنما هي رسالته إلى عبد الرحمن بن مهدي » .[ الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ( ص 73 ) ]
فكتب الشافعي رسالته لابن مهدي، فكانت أول مدون مستقل في أصول الفقه، فحاز قصب السبق، وكان له في هذا العلم قدم الصدق .
هذا ما يسره الله لي في هذا المقال، فإن يكن صوابًا فالحمد لله، و إن تكن الأخرى فمني و من الشيطان، و إلى لقاء آخر نستكمل به مقصد هذا المقال .