يا أمة الاسلام: استقبال عام جديد وانتظار وعد سعيد

الحمد لله الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، ونشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، ونصلي ونسلم على خير البشر وآله والصحب والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين وبعد: عَنْ ثَوْبَانَ – رضى الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

"إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا - أَوْ قَالَ: مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا"

 التخريج:

أخرجهُ مسلم (ح/2889) و أخرَجَهُ مُسلمُ متابعة (2/2215) وأبو داود (ح/4254)، والترمذي (ح/2176 ـ ت الشيخ أحمد شاكررحمه الله)، وابنُ ماجةَ (ح/3952)

 معاني الكلمات:

- زوى لي الأرض: طواها وجعلها مجموعة كهيئة كفٍّ في مرآةٍ ينظره، فأبصر ما تملكه أمته من أقصى مشارق الأرض ومغاربها.

- الكنزين: كنزُ كسرى وهو ملكُ الفرس وكنز قيصرَ وهو ملكُ الروم.

- الأحمر:كناية عن الذهب والمقصود كنز قيصر، لأن الغالب عندهم كان الذهب.

- والأبيض: الجوهر والفضة والمقصود كنز كِسرى، لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة.

- بسنة: الجدْب.

- عامّة:صفةٌ لسنةٍ رُوي بالباء وبحذفها -أي: جدبٌ عامّ يكون به الهلاك العام.

- من سوى أنفسهم:أي: من غيرهم من الكفار.

- بيضتهم: قيل ساحتهم وما حازوه من البلاد، وقيل معظمهم وجماعتهم.

- حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً:أي: حتى يوجد ذلك منهم، فعند ذلك يسلِّط عليهم عدوَّهم من الكفار.

- الشرح:

هذا حديثٌ جليلٌ يشتمل على أمور مهمة وأخبار صادقة، من دلائل النبوة وبشارة الأمة، ففيه يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن بَعضِ ما أنْعَمَ اللهُ سُبحانَه وتَعالَى عَليه وعَلى أُمَّتِه، وعلى تفضله سبحانه من كريم لطفه ىوواسع رحمته؛ فيَقولُ: «إنَّ اللهَ زَوى ليَ الأرضَ»، أي: قَبَضَها وجَمَعَها، حتَّى أبصَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما تَملِكُه أُمَّتُه مِن أقْصى المشارِقِ والمغارِبِ، وهذا خبرٌ وُجد مخبره، فقد اتسع ملك أمته حتى بلغ من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، ثم قال: وإني أعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، أي: أعطى أمته، وإلا فهو قد مات صلى الله عليه وسلم قبل أن ينال شيئاً من كنوزها، ثم قال: وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم: أي بهلاك عام لجميع المسلمين وليس المقصود بها ما قد ينزل بالناس من بعض الابتلاءات وإلا ففي بلاد المسلمين حصلت المجاعات، والذي يقرأ في التاريخ يعرف كيف أننا أصبحنا في نعمة من الله تستوجب الشكر لرب الأرض والسموات، فنبينا يخبرنا أنه دعا ربه ألا يهلك المؤمنين بسنة عامة فأكرمه الله بالإجابة .

ثم دعا صلى الله عليه وسلم ألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم فاستجاب له مولاه وقال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارهاأي: طالما كانوا على ما أنت عليه)، ثم قال جل في علاه: حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا وهو الحاصل في المسلمين، لما تظالموا وتحاسدوا وتقانلوا بعد أن جعلوا الكتاب والسنة وراءهم ظهريا، واتخذوا من ضلال شياطين الانس والجن هاديا مهديا فوقع بهم من الوعيد شر بلية وما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة فاللهم ارفع عنا ولا تؤاخذ أمتنا بما اقترفنا وعجل بتوبة نصوح تبشر برضاك عنا .

مما يستفاد من الحديث:

أولا: الحديث من دلائل نبوته وصدق رسالته عليه الصلاة والسلام:

فقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأمور غيبية وبشارات نبوية لم تكن متصورة بمعاينة الواقع بالوقع لولا صادق الإيمان بصدق خبر الصادق عليه الصلاة والسلام فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن الله زوى له الأرض فرأى مشرقها ومغربها وهل يعقل هذا بحسب ما يقتضيه العلم من قدرات الإنسان ؟ اللهم لا إلا أن يكون بقدرة إلهية ومشيئة ربانية لا تخضع لقوانين البشر ثم يبشر صلى الله عليه وسلم أن ملك أمته سيبلغ مازوى له من الأرض، وقد كان، فهل يعقل أن يضع الإنسان نفسه في إختبار وتحد كهذا لولا ثقته بربه وصدق خبره منه ويخبر بباقي الأمور الغيبية السالف ذكرها مما لا يخفى على شريف علمكم فهل يا ترى بعدما تحقق من خبره مخبره يمكننا أن نقول إن هذا الحديث يصلح أن يكون بعض جواب على بعض المذبذبين من حدثاء العهد والأسنان جوابا على سؤال لطالما طرحوه لماذا آمنت بالله ورسوله ؟ فنهديهم هذا الحديث من دلائل الإيمان فالحمد لله الواحد الديان .

ثانيا: هذا الحديثُ يُبيِّنُ أنَّ للهِ تعالَى في خَلقِه قَضاءينِ: قَضاءً مُبْرَمًا وقَضاءً مُعلَّقًا، أمَّا القضاءُ المعلَّقُ وهو المكتوبُ في الصُّحفِ الَّتي في أيْدي الملائكةِ، فهو عبارةٌ عمَّا قَدَّره في الأزلِ مُعلَّقًا بفِعلٍ، مثلُ: إنْ فُعِلَ الشَّيءُ الفُلانيُّ كان كذا وكذا، وإنْ لم يُفعَلْ فلا يكونُ كذا وكذا، فهذا القضاءُ هو مِن قَبيلِ ما يَتطرَّقُ إليه المحْوُ والإثباتُ، وأمَّا القضاءُ المُبْرَمُ فهو عبارةٌ عمَّا قَدَّره سُبحانَه وتَعالَى في الأزلِ مِن غيرِ أنْ يُعلِّقَه بفِعلٍ، فهو في الوقوعِ نافذٌ غايةَ النَّفاذِ، بحيث لا يَتغيَّرُ بحالٍ، ولا يَتوقَّفُ على المَقْضي عليه، ولا المَقْضي له؛ لأنَّه مِن عِلمِه بما كان وما يكونُ، وخِلافُ مَعلومِه مُستحيلٌ قطْعًا، وهذا مِن قَبيلِ ما لا يَتطرَّقُ إليه المحْوُ والإثباتُ.

ثالثا: كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته وهكذا يكون الداعي إلى الله: إذ أنه يطلب من ربه أَنْ لَا يُهْلِكَ أمته بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ .

رابعا: مَنزِلةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عندَ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى؛ حيثُ أكرَمَه بإعطاءِ ما سَألَه في أُمَّتِه وشرف النبي شرف لأمته .

خامسا: بَيانُ عَظَمةِ هذا الدِّينِ، وأنَّه يَملَأُ الأرضَ كلَّها إذ أنه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار وسيدخل كل بيت وبر ومدر وهذه بشارة وتحفيز أن يمتطي العبد مطية الحق ولا يتخلف عن ركب المصلحين ولا يخضع لدعاوى الباطل ولا هزائم المخزلين فالحق بنا أو بغيرنا ظاهر فلا يبقى إلا أن نتوسل إلى الله أن نكون من المستعملين لا من المستبدلين .

سادسا: خطورة النزاع إذا وقع في الأمة وأنه سبب هلاكها ولا يخفي على أهل البصائر فالخلاف شر فيا أيها المخلصون تعالوا إلى كلمة سواء وكلام السلف في هذا مطولات فلتراجع فضلا تقربا لرب الأرض والسموات .

سابعا: إثبات صفة كلام لله عزوجل فالذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله تعالى لم يزل متكلمًا، وأنه يتكلم متى شاء، وأن كلامه بحرف وصوت يسمع؛ فالكلام صفة ذاتية فِعْـلية، فهو صفة ذاتية باعتبار أصله، لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلماً، وصفة فعلية باعتبار آحاد الكلام، لأن الكلام يتعلق بمشيئته فيتكلم كيف شاء ومتى شاء. والقول في صفات الله تعالى كالقول في ذاته ، قال عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله في النقض على المريسي (1/ 308): "وكما ليس كمثله شيء ليس كسمعه سمع ولا كبصره بصر، ولا لهما عند الخلق قياس ولا مثال ولا شبيه". وقال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله في رسالة إلى أهل الثغر (ص: 216): "وأجمعوا على أن صفته عز وجل لا تشبه صفات المحدثين كما أن نفسه لا تشبه أنفس المخلوقين".

وقال أبو سليمان الخطابي في كتابه: الغنية عن الكلام وأهله كما في مجموع الفتاوى (5/58-59)، والأربعين في صفات رب العالمين للذهبي (ص: 93): "فأما ما سألت عنه من الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة، فإن مذهب السلف إثباتها، وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي والمقصر عنه.

فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، واكتفي من النقل بذلك بعدا عن التطويل لكن لأهمية بيان فهم جمهرة السلف أستأنس فيه بالعزو الكثير فينظر في مثل ما ذكرنا من المعاني إلى مظان ثبوتها من كلام السلف نحو ( ذم التأويل (ص: 15) لابن قدامة المقدسي، وسير أعلام النبلاء (18/ 282-284) للذهبي، وفي كتابه العرش (2 / 457)، وفي كتابه تذكرة الحفاظ (3 / 225)، وفي كتابه العلو للعلي الغفار (ص: 253) ، وشرح السنة للبغوي (1 / 168-171)، و في طبقات الحنابلة (2 / 208) لأبي الحسين ابن أبي يعلى و في الإيضاح في أصول الدين (286-287): لأبي الحسن ابن الزاغوني وفي الحجة في بيان المحجة (1/188-190) لأبي القاسم التيمي الأصبهاني الملقب بقوام السنة، وقاله أبو العباس القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (9/426-427 وقطعا شيخ الإسلام ابن تيمية في التدمرية (ص: 43) وفي الحموية الكبرى (ص: 55)، وفي لوامع الأنوار البهية (1 / 116) للسفاريني وغيرهم كثير والحمد لله أولا وآخرا .