دراسات شرعية: أثر السياق في فهم النص (١٤٦) المعازف (٤).
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين، وبعد، تكلمت في الحلقات السابقة عن تعريف المعازف والأحاديث الواردة فيها، وختمت بحديث هشام بن عمار في صحيح البخاري، ورددت على النقد الموجه للسند من
١- دعوى اضطراب السند.
٢- أن مدار الحديث على هشام بن عمار وهو متكلم فيه.
٣- أن الحديث معلق، و المعلق من أقسام الضعيف
٤- أن الحديث آحاد وحديث الآحاد لا يعمل به، ثم انتقلت إلى المتن و النقد الموجه له:
١- القول بعدم الاتفاق على معنى كلمة المعازف.
٢- ضعف دلالة الاقتران.
٣- مقولة أن الاستحلال اعتقاد أن ما حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم حلالا.
٤- مقولة أن الحرمة في الحديث لاجتماع المذكورات الأربعة في الحديث مع بعضها البعض.
واستكمل بإذن الله تعالى الرد على النقد الموجه لمتن الحديث
٥- القول أن الوعيد على شرب الخمر، وما المعازف إلا مكملة وتابعة (انظر الإسلام والفن الدكتور القرضاوي ص 44).
ولأنه وردت روايات أخرى للحديث فيها: ليشربن أناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير (سنن ابن ماجه وغيره). ويجاب عن ذلك بما سبق أن بينته أن الاقتران ليس معناه أن التحريم لا يكون إلا عند الجمع بين المذكورات في الحديث. وإلا يلزم من ذلك أن شرب الخمر المذكور في الحديث لا يكون حراما إلا عند اقترانه بالمعازف والمغنيات- راجع دلالة الإقتران فى مقالة شهر ربيع ثان - وهذا باطل كما لايخفى.
٦- القول بأن الدف من المعازف وقد جوزه المشرع، وهذا يعارض حرمة المعازف، وانه ورد في الأثار الدعوة إلى الضرب بالدف في الزواج وقيل فرق ما بين الحلال والحرام الدف، ومثل ذلك الموسيقى. وهذا قياس غير صحيح، فجواز المعازف في المناسبات كالعيد والأفراح وقدوم الغائب هو تخصيص من عموم حرمة المعازف، فتحريم المعازف ورد على العموم ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم جواز الدف في احاديث منها:
١- حديث محمد بن حاطب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح (صحيح سنن ابن ماجه وغيره)
٢- حديث بريدة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف (أى رجع) جاءت جارية سوداء، فقالت يا رسول الله إني كنت نذرت أن ردك الله سالما أن اضرب بين يديك بالدف وأتغني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا... (صحيح سنن الترمذي وغيره ). (فائدة: عن حديث بريدة، يقول ابن القيم أن الحديث له وجهان أحدهما: أن يكون أباح لها الوفاء بالنذر المباح، تطييبا لقلبها، و جبرا وتأليف لها في زيادة الإيمان وقوته، وفرحها بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني أن يكون هذا النذر قربة لما تضمنه من السرور والفرح بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم سالما مؤيدا منصورا على اعدائه، قد أظهره الله، وأظهر دينه، وهذا من أفضل القرب فأمرت بالوفاء به، (إعلام الموقعين ٤/٢٤٥).فما ورد في الدف هو تخصيص واستثناء من تحريم المعازف، فلا يقال طالما جوز الدف وهو من المعازف، فقد جازت المعازف، فهذا استدلال عجيب، وإلا فنحن نحل كل أنواع الميتة والدم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحل ميتتى السمك والجراد، والكبد والطحال، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحللت لنا ميتتان ودمان، الميتتان: الحوت (السمك) والجراد، والدمان: الكبد والطحال (صحيح ابن ماجة وغيره) فهل نقول أنه يجوز جميع انواع الميتة والدم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح بعضها، وهذا ما لم يقل به أحد.
٧- القول أن المشرع أباح الغناء للنساء، وغناؤهم أشد تأثيرا في النفس من المعازف.
فلنتأمل في الأدلة التي ورد فيها غناء النساء.
١- في حديث بريدة السابق الذي فيه انه جارية سوداء نذرت عند عودة النبي صلى الله عليه وسلم سالما من غزوة له أن تضرب بالدف وتغني… أولا: هي جارية والجارية، تطلق على الفتاة الصغيرة بحيث يؤمن عدم الافتنان بها. يقول المباركفوري: وفيه (الحديث) دليل على أن الوفاء بالنذر الذي فيه قربة واجب، والسرور بمقدمه صلى الله عليه وسلم قربة سيما من الغزو الذي فيه تهلك الأنفس، وفي قولها وأتغنى دليل على أنه سماع صوت المرأة بالغناء مباح، إذا خلا من الفتنة (تحفة الأحوذى ٧/١٢٢).
إن الافتتان بصوت المرأة يكون بأمرين:
إما بطريقة الأداء التي فيها الخضوع بالقول وترقيق الكلام، وقد نهى الله أمهات المؤمنين عن ذلك، فقال: (ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا) ( الأحزاب). ولاشك أن النساء غيرهن أولى بالنهى. الامر الثاني: في نوعية الكلام المغنى، الجارية كانت تغني فرحا بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم من رجوعه من غزوة منتصرا ومعه بعض كبار الصحابه، فهل يظن أنها كانت تغني إلا بشعر حماس أو بكلمات تعبر بها عن الفرح بعودة النبي صلى الله عليه وسلم. يضاف إلى ذلك أن غناءها كان بالدف فقط، وليس بمصاحبه المعازف والفرق الموسيقية.
٢- وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام مني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة، وعندي جاريتان من جواري الأنصار -وليسا بمغنيتين- تضربان بدفين، و تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، يوم قتل فيه صناديد الأوس والخزرج، فاضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفراش وحول وجهه وتسجى بثوبه، فدخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرهما وقال: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهه وقال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد، و إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا قالت فلما غفل غمزتهما فخرجتا. (البخاري ومسلم وغيرهما) (تقاولت: خاطب بعضهم بعضا بالشعر. الجارية: البنت الصغيرة، وفي أثر عائشة رضي الله عنها، وإن كان به ضعف إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي إمرأة. قال الألباني في إرواء الغليل، رواه الترمذي والبيهقي تعليقا بدون إسناد، ثم اورد حديث ابن عمر المرفوع - وهو كحديث عائشة رضي الله عنهما - وضعفه، لكن جمعا من الفقهاء بنوا على هذا الأثر بعض الأحكام الفقهية، يقول ابن الجوزي: والظاهر من هاتين الجاريتين صغر السن، لأن عائشة رضي الله عنها كانت صغيرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرب إليها الجوارى فيلعبن معها) (تلبيس إبليس ص٢٠٠).
في قول أم المؤمنين: ليستا بمغنيتين، احتراز، معناه ليس الغناء عادة لهما ولا هما معروفتان به. قال القاضي: إنما كان غناؤهما بما هو من اشعار الحرب والمفاخرة بالشجاعة، والظهور والغلبة، وهذا لايهيج الجواري على شر، ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه، وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد، ولهذا قالت: وليستا بمغنيتين، أى ليستا ممن يتغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى والتعريض بالفواحش والتشبيب بأهل الجمال، وما يحرك النفوس ويبعث الهوى والغزل...، والعرب تسمى الإنشاد غناءا وهو ليس من الغناء المختلف فيه، بل هو مباح، وقد استجازت الصحابة غناء العرب الذي هو مجرد الإنشاد والترنم، وأجازوا الحداء وفعلوه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي إنكار أبي بكر رضي الله عنه عليهما، فيه أن مواضع الصالحين وأهل الفضل تنزه عن الهوى واللغو ونحوه وإن لم يكن فيه إثم.
نقلةابن الجوزي بسنده عن أحمد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، عن جوار يغنين.أي شئ من هذا الغناء ؟قال: غناء الراكب: أتيناكم أتيناكم (تلبيس إبليس ص٢٠١)
وقد كان هذا في يوم العيد، والعيد يباح فيه إظهار السرور بالمباحات، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد، إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا ( انظر شرح النووي على مسلم (٦ / ١٨٢ -١٨٣). قول أبي بكر رضي الله عنه: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول أبو الطيب الطبري: هذا الحديث حجتنا لأن أبا بكر سمي ذلك مزمور الشيطان، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قوله، وإنما منعه من التغليظ فى الإنكار لحسن رفقته لاسيما في يوم العيد (انظر تحريم آلات الطرب للألبانى ص 106 - 115).
ويقول ابن تيمية: في هذا الحديث بيان أن هذا لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الاجتماع عليه، ولهذا سماه الصديق أبو بكر رضي الله عنه مزمور الشيطان، والنبي صلى الله عليه وسلم أقر الجواري عليه معللا ذلك انه يوم عيد، والصغار يرخص لهم في اللعب في الأعياد، كما جاء في الحديث، ليعلم المشركون: أن في ديننا فسحة ( انظر السابق).
يقول ابن القيم: فلم ينكر صلى الله عليه وسلم على أبي بكر تسميته الغناء مزمار الشيطان، وأقرهما لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب، الذي قيل في يوم حرب بعاث عن الشجاعة والحرب، وكان اليوم يوم عيد فتوسع حزب الشيطان في ذلك إلى صوت امرأة جميلة أجنبية....مع آلات اللهو التي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع التصفيق والرقص (. إغاثة اللهفان ١/٢٥٧ ).
فهل في هذه الأدلة التي نظرنافيها ما يستند إليه هؤلاء الذين قالوا بأن غناء النساء جائز.
إن من القواعد العلمية أنه لابد من تحرير محل النزاع قبل الاستدلال. فالغناء عند العرب: هو الإنشاد.. ونوع الغناء: كلمات شعرية تقال فى الحرب والبطولة.
ولا علاقة له بأدنى صلة عن الغناء الذي يعنونه ويجوزونه.
وللحديث بقية، والحمدلله رب العالمين