تنبيه الأنام بأحكام وآداب تتعلق بشهر شعبان
كتبه د. محمد عبد العزيز
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله الذي اصطفى، وآله وصحبه ومن اقتفى، وبعد:
□ فشهر شعبان هو الشهر الثامن من الأشهر القمرية يقع بين رجب وهو شهر حرام، وشهر رمضان.
وسمي هذا الشهر بشعبان لتشعب القبائل العربية فيه وتفرقها لقصد الملوك والتماس العطية، ويجمع على: شعابين، وشعبانات. [العلم المنثور في إثبات الشهور، للتقي السبكي (ص 189)]
وهو شهر قد شهد كثيرًا من التشريعات فمن هذه التشريعات:
1- تحويل القبلة إلى بيت الله الحرام، ونزول قول الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}. [البقرة: 144].
فقد كان المسلمون قبل ذلك يستقبلون بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فنزل تحويل القبلة إلى بيت الله الحرام في شعبان في العام الثاني من الهجرة.
2- في شهر شعبان من العام الثاني لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وقع أول نسخ في الشرائع بنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام في الصلاة.
3- فرض الصيام في شعبان من العام الثاني للهجرة، قال النووي في المجموع (6 / 250): «صام رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان تسع سنين لأنه فرض في شعبان في السنة الثانية من الهجرة وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة».
4- فرض زكاة الفطر في شعبان من العام الثاني للهجرة، قال ابن كثير في الفصول في السيرة (ص: 127): «وفي شعبان فُرضَ صومُ رمضان، وفرِضت لأجله زكاةُ الفِطر قُبَيلَه بيوم».
فضل شهر شعبان:
1- شهر شعبان شهر ترفع فيه أعمال العام إلى الله سبحانه وتعالى، لحديث أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان؟
قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» [أخرجه النسائي (2357)].
2- فيه ليلة النصف من شعبان، وقد ورد في فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث لا تخلو من مقال فمن أمثلها: حديث: «إذا كان ليلة النصف من شعبان يغفر الله لعباده إلا لمشرك أو مشاحن».
وقد جاء من طرق كثيرة عن أبي بكر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، وعوف بن مالك، وكثير بن مرة الحضرمي ـ رضي الله عنهم ـ.
وقد صحح الشيخ الألباني الحديث في السلسلة الصحيحة (1144) بمجموع طرقه.
وقد قال ابن رجب في لطائف المعارف (ص 136): «وفي فضل ليلة نصف شعبان أحاديث أخر متعددة، وقد اختلف فيها:
ـ فضعفها الأكثرون.
ـ وصحح ابن حبان بعضها وخرجه في صحيحه».
فهذا أمثل ما ورد في فضل شهر شعبان أو بعض أيامه ولياليه في الفضائل، وغيره لم يصح.
تخصيص شهر شعبان بالعبادة:
هنا ثلاث مسائل مهمة يجب التفريق بينها:
الأولى: صح بسنة النبي صلى الله عليه وسلم الفعلية تخصيص شهر شعبان بالصيام، فمن ذلك.
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم.
وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان.
وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان» [أخرجه البخاري (1969)، ومسلم (1156)]
2- وعن عائشة رضي الله عنها حدثته قالت: «لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرًا أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله.
وكان يقول: خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا.
وأحب الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما دووم عليه وإن قَلَّتْ.
وكان إذا صلى صلاة داوم عليها». [أخرجه البخاري (1970)، ومسلم (1156)]
3- وعن أم سلمة قالت: «ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان» [أخرجه أبو داود (2336)، والترمذي (736)، والنسائي (2175)، (2352)، (2353)، وقال الترمذي: حديث أم سلمة حديث حسن»]
ففي هذه الأحاديث بيان لصيامه صلى الله عليه وسلم:
□ إما لشهر شعبان كله حتى يصله بشهر رمضان كما جاء في حديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ، وقد نقل الاتفاق على ذلك جمع من أهل العلم منهم ابن العطار [ينظر: تطريز حكم صوم رجب وشعبان، لابن العطار (ص 53)].
□ أو صيام أكثره كما جاء في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ فإنه يجوز في لسان العرب إطلاق الكل على الأغلب الذي لا يترك منه إلا النادر، وقد نقل الترمذي عن ابن المبارك قوله في هذا الحديث: «هو جائز في كلام العرب، إذا صام أكثر الشهر أن يقال: صام الشهر كله.
ويقال: قام فلان ليله أجمع، ولعله تعشى واشتغل ببعض أمره.
كأن ابن المبارك قد رأى كلا الحديثين متفقين، يقول: إنما معنى هذا الحديث أنه كان يصوم أكثر الشهر».
وقد علل النبي صلى الله عليه وسلم صيام أكثر شعبان بقوله: «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» كما سبق في حديث أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ
فعلل ذلك بأمرين اثنين:
الأول: أنه شهر يغفل عنه الناس، فتقع العبادة في وقت غفلة الناس.
الثاني: أنه شهر ترفع فيه أعمال العام إلى الله.
الثانية: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه تخصيص يوم أو ليلة من ليالي شعبان لفضلها بإيقاع عبادة فيها لا صيام ولا صلاة ولا قيام ولا نوع ذكر بعينه.
الثالثة: ما ورد في ليلة النصف من شعبان من قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان ليلة النصف من شعبان يغفر الله لعباده إلا لمشرك أو مشاحن».
فيه عبادتان تركيتان من أعظم العبادات، وهي:
1- السلامة من الشرك بنوعيه الأصغر، والأكبر:
ـ أما الشرك الأكبر: فإنه ذنب لا يغفر، مخرج من الملة إن مات صاحبه عليه، محبط لسائر العمل، وصاحبه مخلد في نار جهنم، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].
ـ وأما الشرك الأصغر: فإنه إذا دخل على عمل أحبط أجره، فعن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر.
قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟
قال: "الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً؟» [أخرجه أحمد (23630)]
وعن محمود بن لبيد - رضي الله عنه - قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس: إياكم وشرك السرائر.
قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟
قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدًا لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر» [أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (937)]
2- سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين وإرادة الخير لهم ونصيحتهم وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، وقد وصف الله تعالى المؤمنين عموما بأنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
وهاتان العبادتان متأكدتان في كل وقت، وإنما خصتا بالذكر هنا لذكر فضل الله على عباده بمغفرة ذنوبهم، والشرك والشحناء مانعان من أعظم موانع المغفرة فنبه عليهما.
■ □ أما تخصيص ليلة النصف بالعبادة أو الصلاة لاعتقاد فضلها فهو محدث أنكره أهل الإسلام.
قال ابن رجب في اللطائف (ص 137): «وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر، وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك:
ـ فمنهم من قبله منهم وافقهم على تعظيمها منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم.
ـ وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز منهم: عطاء، وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك، وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة».
وقال الإمام النووي في المجموع (4 / 56): «الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب، وهي ثنتا عشرة ركعة تصلى بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة في رجب، وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعة، وهاتان الصلاتان بدعتان ومنكران قبيحان.
ولا يغتر بذكرهما في كتاب: قوت القلوب، وإحياء علوم الدين، ولا بالحديث المذكور فيهما فإن كل ذلك باطل».
مسائل متفرقة:
وهذه ثلاث مسائل يحتاج إليها المسلم في هذا الشهر:
الأولى: حكم الصيام إذا انتصف شعبان.
الثانية: حكم صيام يوم الشك.
الثالثة: حكم صيام سرر (آخر) شهر شعبان.
أما المسألة الأولى: حكم الصيام إذا انتصف شعبان.
فقد ورد النهي عن الصيام إذا انتصف شهر شعبان، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا».
[أخرجه أبو داود (2337) ، والترمذي (748) ، وابن ماجه (1651) ، والنسائي في "الكبرى" (2923) ، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح]
وهذا الحديث صححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، والطحاوي، وابن عبد البر، وآخرون.
وضعفه ابن مهدي، وأحمد، وأبو زرعة، والأثرم، وآخرون، وعلته عندهم تفرد العلاء بن عبد الرحمن به فهو صدوق لا يتحمل ما تفرد به.
فاختلف أهل العلم في حكم الصيام إذا انتصف شعبان تبعًا لذلك على أقوال، أهمها قولان:
الأول: كراهية الصيام إذا انتصف شعبان وهو قول الشافعية وبعض الحنابلة وقد استثنوا من ذلك مسائل:
1- من كان له عادة بالصيام، كمن يصوم يومًا ويفطر يومًا.
2- من اعتاد أن يصوم الاثنين والخميس، فيصومها إذا وقعت بعد النصف.
3- من كان عليه صيام قضاء أو النذر أو كفارة ...
فيحمل الحديث عندهم على واحد من أربعة:
1- من لم يصم في نصفه الأول شيئًا.
2- من يضعفه صيام شعبان عن صيام رمضان.
3- من لم يكن له عادة بالصيام.
4- من يصومه احتياطًا لرمضان.
القول الثاني: القول بمشروعية الصيام مطلقًا وإن انتصف شعبان لمعارضة الحديث بصيامه صلى الله عليه وسلم وصيام عائشة ـ رضي الله عنها ـ وأحاديث الحث على صيام سرر الشهر، وهو قول الجمهور.
المسألة الثانية: حكم صيام يوم الشك، وهو: يوم الثلاثين من شهر شعبان إذا لم يثبت ثبوتًا شرعيًّا أنه من رمضان، وسمي بذلك لأن الناس يشكون أنه مكمل لشهر شعبان أو هو غرة شهر رمضان.
لحديث صِلَةَ بنِ زُفَرَ: قال: «كنَّا عند عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ فأُتِيَ بشاةٍ مَصْلِيَّةٍ فقال: كُلُوا، فتنحَّى بعضُ القَومِ، فقال: إنِّي صائِمٌ.
فقال عمَّارُ: من صامَ اليومَ الذي يَشُكُّ به النَّاسُ، فقد عصى أبا القاسِمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم» [أخرجه أبو داود (2334)، والترمذي (686)، والنسائي (4/153)، وابن ماجه (1645)، وقال الترمذي: حسن صحيح].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه». [أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082).]
فذهب الجمهور إلى أنه يحرم صوم يوم الشك خوفًا من أن يكون من رمضان، أو احتياطًا، وهذا مذهب: الحنفية والمالكية، والشافعية، ورواية عن أحمد، وهو قول جمهور السلف، ولا فرق عند الجمهور بين يوم الغيم ويوم الصحو.
المسألة الثالثة: حكم صيام سرر (آخر) شهر شعبان.
معنى سرار الشهر: بكسر السين، وبفتحها، وقيل: إنّ الفتح أفصح: آخر الشهر
قال أبو عبيد: السرار آخر الشهر إذا استسر الهلال.
قال ابن قتيبة: ربما استسر القمر ليلة أو ليلتين.
ويجوز أن يكون معنى قوله: «سرر هذا الشهر» أي: من وسطه، لأنها الأيام الغر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيامها، وسرارة كل شيء وسطه وأفضله.
[ينظر: شرح ابن بطال على صحيح البخاري(4 /129)]
وقد ورد فيه حديث عمران بن حصين ـ رضي الله عنهما ـ: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: هل صمت من سرر هذا الشهر شيئًا؟
قال: لا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أفطرت من رمضان، فصم يومين مكانه».
وفي رواية: «أصمت من سَرَرِ شعبان؟» [أخرجه البخاري (1983)، ومسلم (1161)].
□ فاستدل بهذا الحديث على مشروعية صيام آخر شعبان لكنه معارض بقوله: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين» والجمع بينه وبين هذا الحديث يسير فقد استثنى النبي صلى الله عليه وسلم في نفس هذا الحديث فقال: «إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه» فيحمل الحث على صيام سرر الشهر على من كان له عادة بصيام، قال القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم (4 /134): «وظاهر الحديث مخالف لقوله: " لا تقدموا الشهر بيوم، ولا يومين"
فيصح أن يحمل هذا:
□ على أن الرجل كان ممن اعتاد الصوم في سرر الشهر.
□ أو نذر ذلك.
وخشى أن يكون إذا صام آخر شعبان دخل في النهي؛ فيكون فيما قال عليه السلام دليل على أنه لا يدخل في هذا الذي نهي عنه من تقدم الشهر بالصوم.
ـ وأن المراد بالنهى، من هو على غير حالته.»
هذا ما يسر الله تعالى في هذا المقال، والله أعلى وأعلم وأحكم