نظرات في زواج التحليل(1)
المقصد من عقد الزواج
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1]
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فقد جعلت هذا المقال في مقدمة تمهيدية مهمة، وثلاثة مسائل:
أما المقدمة التمهيدية فهي في بيان المقصد من عقد الزواج.
وهي التي نفرد لها هذا المقال القصير.
والمسائل الثلاث هي:
المسألة الأولى: بيان المراد بزواج التحليل.
المسألة الثانية: أنواع زواج التحليل الواقعة بين الناس.
المسألة الثالثة: حكم زواج التحليل.
المقدمة التمهيدية: بيان المقصد من عقد الزواج.
من أهم مقاصد الزواج العليا عمران الأرض وحفظ النسل، ومن أجل تحقيق ذلك المقصد خلق الله تعالى في الناس الغرائز التي يسعون لإشباعها، وهذه الغرائز ترتبط بالجنس الحيواني كله، فكل إنسان ينزع إلى الاتصال بالنوع الآخر؛ ليحقق الإشباع الجنسي والروحي الذي ينقصه، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]
فإذا ما حصل بينهما الاتصال الجنسي ورويت هذه الرغبة الغريزية جعل الله بينهما الولد وهو مطلب فطري، يطلبه بنو آدم ويسعون إليه، وهذا الميل والنزوع الغريزي في النوع الإنساني حقيقة لا يمكن إنكارها، بل وهو مطلب من المطالب التي تتحقق به سعادة الزوجين فالأمومة مطلب غريزي تسعى لتحقيقه كل امرأة وكذلك الأبوة مطلب فطري يسعى لتحقيقه الرجل قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]
ولذا فإن هذا المطلب إذا لم يتحقق فإن كلًّا من الزوجين يسعى إليه حثيثًا، وقد يدخله من الهم والحزن الكثير، وقد يسعى إلى طلب العلاج الطبي إن رأى أنه يحقق له هذا المطلب، حتى إن الله تعالى جعل الولد منه هبة يمتن بها على عباده، قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49، 50].
والله تعالى قد هذب هذه الغرائز، وجعل لها التشريعات المنظمة لها، وجعل فيها تكاليف واختبارًا للثقلين الإنس والجن.
فشرع الزواج وجعل له أحكامًا تخصه، وجعل في كل حكم من أحكامه أركانًا لا يقوم إلا بتحققها، وشروطًا لا ينعقد إلا بتوفرها، وموانع لا يصح إلا بانعدامها، وآدابًا لا يحقق الزواج مقصده إلا بمراعاتها.
ومن أهم مقاصد الزواج تحقق السكن والمودة بين الزوجين، وطلب الولد الذي يمتد به ذكر الإنسان، ويتحقق به العمران، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 189].
إذن فهذه أهم المقاصد الفرعية لعقد الزواج:
1 ـ تحقيق السكن والمودة بين الزوجين.
2 ـ إعفاف الزوجين بإرواء الغريزة الجنسية بالحلال الطيب.
3 ـ طلب الولد الصالح.
فإذا لم يتحقق السكن والمودة وحل مكانهما الشقاق والخلاف واستحالت العشرة بين الزوجين، واستحال الميل الغرزي إلى نفرة، ولم يكن لرابط الأبوة والأمومة القوة التي تربط بين الزوجين فقد شُرِعَ الفراق سواء كان ذلك بطريق الطلاق أو الخلع أو الفسخ، ولكل منها أحكام وتشريعات منظمة شرعها الله رب العالمين.
ومن أكثر طرق الفرقة شيوعًا بين المتنافرَينِ من الأزواج الطلاق؛ لأنه لا يفتقر إلى حكم قاضٍ يفرق بين الزوجين بعكس الخلع والفسخ، وقد جعل أمره إلى الزوج صاحب القوامة في الأسرة.
والله تعالى جعل في تشريع الطلاق أحكامًا وآدابًا ليس هذا محل ذكرها على أنها قد سبقت في عدد من المقالات.
على أن الذي يهمنا الإشارة إليه منها في هذا المقال أن الله تعالى قد جعل للزوج ثلاث تطليقات:
الطلقة الأولى والثانية منهما جعل الله للزوج فيهما فسحة، فجعل له بعد كل تطليقة منهما عدة تمتد إلى ثلاثة قروء ـ حيضات ـ تكون فيها المرأة رجعية فيعيدها إلى ذمته دون افتقار إلى موافقة الزوجة، ووليها العاقد، ودون مهر جديد، ولا شهود، بل يكفي فيها مجرد إعادتها إلى ذمته مع الإشهاد على الرجعة لتحفظ.
فإذا انقضت العدة ولم تظهر رغبة الزوج في استمرار الحياة الزوجية بانت منه المرأة بتطليقة بينونة صغرى، فكان أمرها إليها، فلا يستطيع الزوج زواجها مرة أخرى إلا كخاطب من الخطاب.
عدد مراجعات الزوج لزوجته بعد طلاقها:
فإذا أعاد الزوج المرأة إلى عصمته في عدتها إن كانت رجعية، أو تزوجها بعقد جديد بعد بينونتها منه بينونة صغرى لم يكن له فعل ذلك إلا مرتين، قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]
فإذا طلقها الثالثة بعد رجعتها الثانية بانت منه بينونة كبرى لا تحل له بعدها إلا أن تتزوج من غيره زواج رغبة فإذا استحالت العشرة بينها وبين زوجها الجديد فطُلِّقَتْ منه طلقة بائنة حل لزوجها الأول أن يعود إليها خاطبًا من الخطاب، ويكون زواجها من غيره هادمًا للتطليقات السابقة له، قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230].
لكن كثيرًا من الأزواج استهان بهذه الأحكام فأساء التصرف فيما شرعه الله عزوجل وجعل أمره إليه لقوامته على هذه الأسرة وهذا الكيان، فلم يراع في عقد الطلاق أحكامًا ولا تشريعات وآداب فتراه حينًا يوقعه بدعيًّا في زمانه فيطلق في حيض أو في طهر جامع فيه، وحينًا يوقعه بدعيًّا في عدده فيجمعه فيوقعه ثلاثًا، بل وقد يغلظ فيه فيظاهر ويطلق ويحرم في آنٍ واحد.
وحينًا آخر يجعل عقد الطلاق يمينًا لإلزام النفس بفعل أو لنهيها عن فعل، بل ويبلغ به السفه أن يجعله لإلزام غيره بفعل أو لنهيه عن فعل، وحينًا آخر يجعله عقوبة وسوطًا يعاقب به المرأة أو أهلها إذا ما ظن في نفسه خطأها أو خطأهم، والله تعالى ما جعل عقد الطلاق لشيء من ذلك.
وعندها تقع منه الندامة على هذا التفريط، بل وربما لا يدرك عظم ما فعل وأنه حطم بناء أسرة سعى إليها، وفرق شمل أحبة ربطتهم علاقات الزوجية أو الأبوة أو البنوة إلا بعد أن يضيق عليه الشرع بطلقته الثالثة، فيذهب عندها طالبًا نتن التحليل باحثًا عن التيس المستعار.
وهذا ما سوف نتناوله في مقال قريب إن شاء الله تعالى.