باب السنة في رمضان بين الخوف والرجاء
ماذا تفعل لو كان رمضان الأخير؟
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم وآله وأصحابه ومن تبعهم من صالحي المؤمنين وسلم تسليما كثيرا وبعد: تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال ورزقنا وإياكم عمرا مديدا في طاعة الرحمن ذي العزة والجلال في عفو وإحسان وستر وعافية من الواحد المنان، ثم بحسن خاتمة نرجو بها من الكريم الرحمة والغفران إنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل، غير أننا بعد هذا كغيرنا من الأحياء ينتظر دوره بين منتظري الرحيل عن دار الفناء، تلكم هى الحقيقة الوحيدة التي لا يماري فيها إنسان فلم يختلف عليها اثنان ولم ينتطح فيها عنزان مع أن من الناس من اختلف على سيد المرسلين بل واختلفوا على رب العالمين وليست تلك الفئة المختلفة هى المقصودة من هذه التذكرة، إنما قصدت منها نفسي وإخواني من الموحدين، وعلى أية حال فالكل ينتظر دوره في طابور الميتين.
وعليه فإن الإيمان بالموت هى الحقيقة الغائبة الحاضرة المنتظرة، فاللهم عجل أوبتنا وحسن توبتنا وآنس في القبر وحشتنا.
هذا وإننا يا عباد الله حين نقرأ قول الله تعالى: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30 من الزمر)،وقوله تعالى: ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ..(185 من الزمر )) بل وإننا حين نلامس هذا في حياتنا من الاستيقاظ كل يوم على خبر ينعي لنا من الأحياء ممن كنا معهم قبل لحظات وما ذلك الذي ذكرنا عن الناس ببعيد فكم من أناس أراهم في سويداء القلب يحيون وتراهم يا حبيبي في الله أيضا أمام عينك ماثلين، إخواننا وشيوخنا ومعارفنا بل وأولادنا كانوا بالأمس بيننا يصلون ويصومون ويتصدقون ويستغفرون ويذكرون ويملأون الدنيا ثم هاهم الآن لدعوة صادقة من الأحياء ينتظرون.
إننا حين نقرأ ونرى ماذكرت لاشك تكون الموعظة،لكننا ما كنا يوما من الأيام نلتفت إلى أننا كل يوم نسلم أنفسنا للموت في لحظات نظنها أوقات راحة ومتعة أي حين النوم، فهل تعلم يا عبدالله أنك حين تنام فقد صرت في عداد الأموات ثم إنك بعد هذه الموتة الصغرى تنتظر هل تظل على موتك وثباتك أم أن الله يهبك من فرصة الحياة ما يستوجب الشكر والطاعة كما قال تعالى في شأن موتتك الكبرى و الصغرى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ..» (الآية 42 من سورة الزمر)، وقال عليه الصلاة والسلام في انتظار القضاء بإمساك النفس أو العودة للحياة (إذا أوَى أحَدُكُمْ إلى فِراشِهِ، فَلْيَنْفُضْ فِراشَهُ بداخِلَةِ إزارِهِ؛ فإنَّه لا يَدْرِي ما خَلَفَهُ عليه، ثُمَّ يقولُ: باسْمِكَ رَبِّ، وضَعْتُ جَنْبِي، وبِكَ أرْفَعُهُ، إنْ أمْسَكْتَ نَفْسِي فارْحَمْها، وإنْ أرْسَلْتَها فاحْفَظْها بما تَحْفَظُ به عِبادَكَ الصَّالِحِينَ.) البخاري (6320) من حديث أبي هريرة
نعمة الحياة والإمهال بلا إهلاك:
ثم يكون الشكر على نعمة الحياة حين يعلمنا رسول الله: (كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا أوَى إلى فِرَاشِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ باسْمِكَ أحْيَا وأَمُوتُ، وإذَا أصْبَحَ قَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أحْيَانَا بَعْدَ ما أمَاتَنَا، وإلَيْهِ النُّشُورُ (((البخاري (7394) من حديث حذيفة وهذه هى نعمة الحياة.
إنه محض إنعام بالفضل ولوكان بالعدل لعجل لنا الهلاك قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر: 45] وقال تعالى: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [الرعد:6]. وقوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف: 58] يقول صاحب التحرير والتنوير في تفسير هذه الآية: “.... وفي ذلك التأجيل رحمة بالناس بتمكين بعضهم من مهلة التدارك، وإعادة النظر، وفيه استبقاؤهم على حالهم زمنا....”
فالحمد لله أولا الذي تفضل علينا ومنحنا الحياة وفرصة التوبة إلى الله حتى لحظة ما نكتب الآن فاللهم أتم علينا عافيتك وبلغنا رمضان بكرمك كما أكرمتنا بفرصة الحياة بلطفك، إذ ليس من التشاؤم بعدما ذكرنا أن العبد مرهون بأنفاس ربما تخرج ثم لايؤذن لها بالدخول أو تدخل ولايؤذن لها بإعادة الكرة فتخرج.
عبادة تذكر الموت:
هذا وإن من الاستعداد ومما نستقبل به رمضان ما ذكرنا من عبادة تذكر الموت كما قال صلى الله عليه وسلم:(أَكثروا ذِكرَ هاذمِ اللَّذَّات يعني الموتَ) صحيح الترمذي (2307) من حديث أبي هريرة، ثم لا يكون هذا الذكر لهاذم اللذات ذكرا شكليا بل والعمل بمقتضاه فلا يفعل هذا إلا من اعتقد بحق أنه من الأموات.
ومن أقوال أسلافنا الصالحين:
قال أبو بكر رضى الله عنه: كل امرئ مصبح في اهله والموت ادنى من شراك نعله
وقال أبو الدرداء رضى الله عنه:أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس مغفولا عنه ولا يدري أأرضى الله أم أسخطه
وقال أبو ذر:ألا أخبركم بيوم فقري يوم أوضع في قبري
قال بعضهم:
كلّ ابن انثى وإن طالت سلامته.. يوما على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبور جنازة.. فاعلم بأنّك بعدها محمول.
وقال أبو العتاهية:
نسيت الموت فيما قدنسيت كاني لا ارى احدا يموت
اليس الموت غاية كل حي فمالي لا ابادر ما يفوت
وقال الحسن البصري: ففضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحا
وقال محمد بن واسع: ما ظنك برجل يرحل الى ربه في كل يوم مرحلة
وقال بعضهم: توسدوا الموت اذا نمتم واجعلوه امام اعينكم اذا قمتم
وقال الربيع بن خيثم:كم من مستقبل يوما لا يستكمله ومنتظرا غدا لا يبلغه (ينظر: الزهد لابن المبارك ص84، الزهر الفائح لابن الجزري ص62)
رضي الله عنهم وغفر لنا ولكم:
لذلك أيها الحبيب إن افتراض رمضان القادم هو الأخير افتراض واقعي و مطلب نبوي فماذا يعني هذا الإفتراض زيادة على ما سبق ؟
مقام التوبة إلى الله:
هذا وإن أول مقام يقف العبد على بابه هو مقام التوبة إلى الله بكافة صورها وأشكالها من ظلم العبد لنفسه بتقصيره في جنب ربه وظلمه لنفسه بظلمه لخلقه، ولا يذهب العبد ببصره أثناء توبته إلى ما اشتهر من ذنوب تعارفنا عليها فقط بل إنني أرجو أن ينير الله قلوبنا وأبصارنا على التوبة من ذنوب ربما نتقلب فيها ليل نهار ومن كثرتها وكثرة تكرارها ودقتها وغفلتنا اعتدنا عليها واستمرأناها فلانلقي لها بالا ولا نقيم لها وزنا من ظلم للنفس بشتى الصور غفلنا عنها وقد سترت علينا، فيا ليت شعري ما الذي كتب علينا ونحن في غفلة معرضون فاللهم سلم سلم واعتبروا يا أولي الأبصار.
ثم عبادة الدعاء:
ثم إنني بعد ذلك أرى أنه من الأهمية أن نستعد ذهنيا لهذا الشهر الكريم.. بمعنى أن نكون له مترقبين وإياه منتظرين.. ولأيامه ولياليه مشتاقين...فعندئذ تكون انطلاقتنا الكبرى حينما يبلغنا الله رمضان وإن من أهم الطرق للوصول إلى هذه الحالة الشعورية الواجبة أن نتخيل أن رمضان القادم هو رمضان الأخير في هذه الدنيا، مع كامل رجاءنا في الله أن يبلغنا رمضان أزمنة عديدة في أعمار في طاعة الرحمن مديدة، وهذه عقيدتنا بين الخوف والرجاء ويكون ذلك بإلحاحنا الشديد في الدعاء في طلب ذلك من الله .
بل وإنني لا أقول مبالغا إن المسلم يعيش حالة من عقيدة الخوف أن يقضى نحبه فلا يدرك رمضان غير أن عقيدة الرجاء تبعث في نفوسنا من الأمل في الله ما يدفع إلى الدعاء أن يبلغنا رمضان وأن يرزقنا فيه جماع الخير والإحسان.
إن الاستشعاربما سبق من خوف ورجاء هو مطلب نبوي كريم وأصل عقدي صميم، فكم من أصحابٍ ومعارفَ كانوا معنا في رمضان السابق وهم الآن من أصحاب القبور! والموت يأتي بغتةً، ولا يعود أحدٌ من الموت إلى الدنيا أبدًا.. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100].
فلنتخيَّلْ الآن يا عباد الله أننا عُدْنا إلى الحياة، وأخذنا فرصة أخيرة لتجميل حياتنا في هذا الشهر الأخير، ولتعويض ما فاتنا خلال العمر الطويل، ولتثقيل ميزان الحسنات، ولحسن الاستعداد للقاء رب الأرض والسموات.
ثم عبادة استحضار النوايا في رمضان:
فإنني أنوي إن أكرمني الله بإدراك رمضان ما أضعتُ فريضة فرضها الله عليَّ أبدًا، بل ولاجْتهدتُ في تجميلها وتحسينها، ولو أني أعلم أن هذا هو "رمضاني الأخير" لحرصت على الحفاظ على صيامي من أن يُنقصِه شيءٌ.. ولو أني أعلم أن هذا هو رمضاني الأخير، لحرصت على صلاة القيام بقراءة أعيش فيها مع آيات الله عز وجل.. ولو أني أعلم أن هذا هو رمضاني الأخير ما تجرأت على معصية، ولا فتحت الجرائد والمجلات ولا مواقع الانترنت للسفاهة والمؤامرات أبحث ملهوفًا عن مواعيد الأفلام و التمثيليات والبرامج الآكلة للدين والخلق والثوابت والأوقات..
ولو أني أعلم أن هذا رمضاني الأخير ما نسيت أمتي؛ فجراحها كثيرة، وأزماتها عديدة، وكيف أقابل ربي ولست مهمومًا بأمتي؟!.. ووحوش الأرض تنهش المسلمين.. والمسلمون في غفلة! وقد اجتمع عليها القاصي والداني من أكلة الذئاب كما تجتمع الآكلة على قصعتها.
هكذا كان يجب أن يكون رمضاني الأخير، بل هكذا يجب أن يكون عمري كله.. وماذا لو عشت بعد رمضان؟! هل أقبل أن يراني الله عز وجل في شوال أو بعده لاهيًا ضائعًا تافهًا؟!
إننا في رمضاننا الأخير لا نتكلف الطاعة، بل نعلم أن طاعة الرحمن هي سعادتنا في الدارين فهى سبيلنا إلى الجنة كما أنها سبيل لصلاح الدنيا، وأن الله عز وجل لا تنفعه طاعة، ولا تضرُّه معصية، بل الحق أنهم بالسعادة أطاعوا وبالشقاء عصوا.
إنه يعني أن تكون كل فروضي مع جماعة المسجد عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة الجماعة أفضلُ مِن صلاة الفذِّ بسبعٍ وعشرين درجةً))؛ متفق عليه.
ويعني أن تكون الصلاة هى راحتي وقرة عيني فليست تكلفا فعن حذيفة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه (أهمَّه) أمر صَلَّى) رواه أبو داود وحسنه الألباني.
كما أنه يعني تجويد صلاتي وقيامي ودعائي تأسيا برسول الله:
فعن حذيفة رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح "البقرة"، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها. ثم افتتح "النساء" فقرأها، ثم افتتح "آل عمران" فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام قياما طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبا من قيامه) رواه البخاري.
رمضان الاخير والقرآن: يعني أن يكون تعاملنا مع كتاب الله بنظرة صادقة أرادها منا شرعا رب العزة جل في علاه
ليس فقط ما تعودنا عليه من تحصيل أجر المقارئ كما نحفظ ونردد كما في حديث أبي هريرة (قال: قال رسول الله ﷺ: وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )) رواه مسلم.)
لكننا نريد إضافة لهذا الخير أن ينصلح تعظيمنا لكتاب الله تأثرا وتطبيقا وما حال أسلافنا ببعيد: فهذا أميرالمؤمنين عمر رضى الله عنه يقرأ (إذا الشمس كورت......) حتى بلغ واذا الصحف نشرت فخر مغشيا عليه
و سمع قارئا يقرأ والطور حتى بلغ قوله ان عذاب ربك لواقع ماله من دافع فمرض شهرا لايدرون ما مرضه
وهذا باب واسع ومساحة المتاح قليلة فلتتفضل بالاطلاع في مظانه
يا عباد الله إن الكلام عن رمضان الأخير لا ينتهي إنها حياة كاملة تكون لله عز وجل كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الانعام ) 162)
فهى تعني وقفة في العبادات والمعاملات وعبادة الخلوات برب الأرض والسموات وقبلها توبة حقيقية لتصحيح المعتقدات فضلا عن ذلك نوافل الخيرات ومزيد الطاعات.
فيا أمتي، العملَ العملَ.. والجهادَ الجهاد.. والصدقَ الصدق؛ فما بقي من عمر الدنيا أقل مما ذهب منها، والكيِّس ما دان نفسه وعمل لما بعد الموت.
وأستغفر الله لي ولكم.