التربية بين الأصالة والتجديد
(الحلقة السادسة عشر)
الدور التربوى للعبادات - الصوم
بيانات المقال |
|
السنة |
15 (1407هـ) |
العدد |
162 (المحرم) |
الصفحات |
24: 28 |
التاريخ الميلادي |
1986م |
خلق الله الإنسان من روح وجسد ولكل غذاؤه ونماؤه وصحته وسقمه وطغيان أحدهما اضرار بالآخر. فإذا ضعف سلطان الروح ملك الجسد زمام الحكم وطغى واسترسل الإنسان في لذاته وشهواته ورتع فيها رتع البهائم السائمة وانصرفت همته وذكاؤه وإبداعه إلي الإسراف والإيثار من أنواع الطعام والشراب فيصبح همه شهيته يبحث عن الطعام وما يعين على الهضم ويفكر فيما يلزم الوجبة الثانية قبل أن ينتهى من الأولى فتكون حركته دورانًا بين المطعم والمرحاض ومائدة الطعام والبالوعة. عسير عليه أن يجيب إذا سئل هل تعيش لتأكل أم تأكل لتعيش ؟ والله سبحانه يقول: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُم).
فينجذب إلى طين الأرض (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
من أجل ذلك أرسل الله الرسل رفعًا للبشر ومن أجل ذلك أمرهم بالعبادات يقومون بها ويعلمونها للناس ومنها الصوم أمرهم به ترويضًا وتهذيبًا (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) حيث يحد من طغيان الجسد وضعف الروح.
فالصوم حبس النفس عن الشهوات وفطامها من المألوفات وهو تعديل للشهوات استعدادًا لطلب سعادتها في حياتها الأبدية يكسر بالجوع شهوته فيتذكر الفقراء والمساكين اشفاقًا عليهم. ويضيق مجاري الشياطين.
والصوم حفظ للجوارح من المواد الفاسدة وحفظ للقلب من سيطرة الشهوات وعون على التقوى، وقد شرع الله سبحانه الصوم بقدر المصلحة نافعًا للعبد في دنياه وأخراه.
والصوم ليس انتقامًا من الصائم فالله يستثني من ذلك التكليف المريض والمسافر والعاجز عن الصوم ( يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون).
ولما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها تأخر فرض الصوم على المسلمين إلى ما بعد الهجرة ففرض في العام الثاني من الهجرة بعد أن توطدت النفوس على التوحيد وعلى الصلاة وألفت أوامر القرآن. فكان الصوم بذلك إصلاحًا وتزكية ومدرسة خلقية يتخرج فيها الإنسان فاضلاً كاملاً. زمامه بيده، يملك نفسه وشهواته ولكنها لا تملكه فلقد استطاع الإضراب عن المباحات والطيبات فهو بذلك أقوى على ترك المحرمات. ومن يترك الماء العذب والطعام الزكي لأمر ربه كيف يقرب السحت والرجس والنجس.
أما إذا تغلبت الطبيعة الحيوانية صارت المعدة القطب الذي تدور من أجله الحياة فلا تجد في عمره وقت صفاء ولا يقظة ولا يتجه إلى عبادة إلا متثاقلاً كسلانًا، كل شغله البحث عن فاتح الشهية ومزيل الحموضة وهاضم الطعام وهو يجلس على مائدة الطعام لم يغادرها يخطط لمائدة أخرى لا يصرف وقته ولا فكره في حديث له إلا عن الطعام (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا).
من أجل ذلك شرع الله الصوم حفظًا للجوارح الظاهرة، وإنماءً لقوة الإيمان الباطنة فكان كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الصوم جنة - ويقول: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء.
ولقد جعل الله سبحانه فرض الصوم شهرًا كاملاً تتصل أيامه ولم يشرع الوصال فيه لغير النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بذلك أنفع للعبد حيث يغير من عاداته نحو الشهوات فيصبح فيها متحكمًا فلا تملكه فتورده المهالك فيصبح الصوم مربيًا ومهذبًا للجوارح وللروح.
ولما كان الصوم مدرسة وتربية جعله الله سبحانه في شهر رمضان اختيارًا جميلاً يبينه سبحانه بقوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). فكان الوحي حظ الأرواح وغذاءها وقد نزل في رمضان فناسب ذلك أن يكون التخفف من حظ الأجساد حتى تزكو الأرواح وتتربى الأنفس وترتفع إلى ربها وبارئها.
وصوم شهر رمضان شهرًا واحدًا يصوم فيه المسلمون جميعًا يختمه الله لهم بعيد يفرحون فيه جميعًا، وفي ذلك ربط وثيق بين قلوب المسلمين وحدة واخاء ومحبة وتعاونا كل ذلك ينشأ وتقوى روابطه وتتوثق عراه بين المسلمين بصومهم جميعًا شهر رمضان.
وترك المسلم لطعامه وشرابه لادفعًا لمرض ولا طلبًا لصحة ولكن قربة وطاعة لله عز وجل يجعل المسلم يشعر بأنسه بالله سبحانه حيث يترك حظ النفس المباح طاعة وإرضاء لله ورجاء الثواب منه وحده.
وفي الحديث القدسي: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يترك طعامه وشرابه من أجلي ويدل على ذلك القرب أن آيات الصيام جاء في سياقها آية الدعاء الدالة على أثر الصوم وترك الشهوات طواعية لله سبحانه فهذه مناسبتها: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ): فمن المنح في شهر الصوم ووقت الصوم إجابة الدعاء لحديث: (ثلاث لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم …).
هذا والصائم الذي ترك الحلال فتربي بصومه أقرب إلى اجتناب المحرمات حتى يحفظ عمله من البطلان ونفسه من النار فيقول سبحانه بعد آيات الصوم: ( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
فبالصوم تصح الأبدان ويتجدد الإيمان ويتعلم المسلم المراقبة لربه والإحسان ويترابط المسلمون بالحب والتعاون وترك العدوان على أموال غيرهم.
هذا وإن الصورة لتكتمل جمالاً وروعة بعد رمضان فيكون صوم ستة من شوال ثم عرفة ومن بعده عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وفي كل ذلك مغفرة للذنوب وغسل للصحائف وتنقية للعبد وصفاءً وتقوى فيرى المسلم ويأمل بذلك نقاء صفحتها حتى تصير كالثوب الأبيض فيخاف من الوقوع في المعصية أو الإهمال في الطاعة، كالذي يلبس الثوب الناصع البياض يحذر من دنس الطريق أن يصيبه. فتراه. فتراه يفتش بعد ذلك في سائر عمله خوفًا من الوقوع في الذنب يلوث صفحته البيضاء وفي ذلك ترشد الأحاديث الشريفة.
من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.
من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.
من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.
سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صوم يوم عرفة، قال: يكفر السنة الماضية والسنة الباقية.
وسئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: يكفر السنة الماضية.
صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله.
هذا وشهر رمضان في صومه يربط المسلم بآلاء الله وكونه وأرضه وسمائه وبالشمس والقمر والليل والنهار والفجر كلهم عباد لله لا يتخلفون وهو بينهم لله عابدٌ طائع، فيقول الله سبحانه لا تصوموا حتى تروا الله الهلال ولا تفطروا حتى تروه. ويقول سبحانه: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (البقرة: 187). ويقول -صلى الله عليه وسلم- إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم.
فلم يعلق المولى سبحانه شيئًا من الصوم وكذلك الصلاة والحج بحسابات يجيدها قوم ويخطئها آخرون ولكن بالقمر والشمس والليل والنهار والفجر فهم ينظرون إلى السماء كأنهم يقولون ربنا هل فتحت علينا عيدًا. فيشعر العبد بذلك أنه واحد من هذه الآيات الكبيرة يعبد معهم ربًا واحدًا قويًا يرعاه ويمده بقوته ويرشده وفي ذلك تربية وتعليم وتهذيب للأفراد والجماعات.