التربية بين الأصالة والتجديد
(الحلقة الخامسة عشر)
الدور التربوى للعبادات - الزكاة
بيانات المقال |
|
السنة |
14 (1406هـ) |
العدد |
166 (شوال) |
الصفحات |
27 : 29 |
التاريخ الميلادي |
1986م |
أن الناس يكدحون لكسب المال ويعملون على تحصيل الأقوات ولكن تتفاوت حظوظهم في ذلك فمنهم من وسع الله عليه وبسط له في عيشه ومنهم الفقير المحتاج والمسكين المعدم. وأن النفس قد جبلت على حب المال والمتاع (أن الإنسان لربه لكنود وأنه على ذلك لشهيد وانه لحب الخير لشديد) فإذا تركت النفس لذلك ملكها شحها وطغى عليها حتى أصبح العالم كله مصنعا كبيرا يتحرك فيه بنو آدم كلآلات صماء لا قلوب لهم ولا ضمائر ، ولا متعة لهم ولا لذة.
لذلك عرف الله الإنسان بموقفه من المال وذلك أنه مؤتمن عليه ومستخلف فيه. يخلف من سبقه ويخلفه من بعده {وآتوهم من مال الله الذى آتاكم} {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}.
ثم دعه إلى الانفاق دعوة كريمة اعلاء لنفسه وتزكية لروحه وصلة بخالقه الذى رزقه المال والذى يرجى منه البركة والنماء والحفظ لهذه الأموال فيقول سبحانه {من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة} ويقول {أن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم} ويقول {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا}.
ويقول سبحانه: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} فالزكاة تطهير للأنفس وتزكيه لها وتطيب للمال الذى أنعم الله به على العبد وهى تجلب البركة في الأموال في الدنيا وتدفع عنهم لفح جهنم في الآخرة. فعن ابن عباس أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقى من أموالكم) رواه أبو داود. والله سبحانه يذكر ثمرة الانفاق في سبيله (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) وكذلك يحذر سبحانه من البخل لأنه مهلكة {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا أن الله يحب المحسنين}.
هذا ولقد اقتضت حكمة الله تعالى ولطفه بعباده أن يشرع للزكاة نظاما بين الحدود واضح المعالم معين النصاب معلوم المقادير والأعداد يكون وسطا بين الكثير والقليل لا يستهين به الأسخياء ولا يقصر عنه المقتصدون. فلم يكل ذلك إلى رأى ولا همة أو طموح أو أنفعال أو وجدان وعاطفة فتأخذه في القوة والضعف أو الزيادة والنقص ، وجعل هذه الزكاة طريقاً لمواساة المحتاجين فجعل قسطا للفقراء والمساكين وحفظا للدين على أهله. فجعل منها قسطا للمؤلفة قلوبهم وقسطا لفك الرقاب المسترقة. ولم يترك ابن السبيل عرضة للفتن في غربته فجعل له في الزكاة حقا. وجعل لثغور المسلمين حقا سماه (وفي سبيل الله) ولم يمنع حق القائمين عليها حتى لا يدخل الشيطان عليهم باهمال أو خيانة ولم يترك أهل الغرم حتى جعلهم أصحاب حق في الزكاة إبقاء على النخوة والاقدام للصلح بين طوائف المسلمين إذا دب بينهم خلاف وغرم بعض أهل الخير والصلاح في ذلك الصلح.
وهذا ولم يجعل الله الزكاة في كل المال ولكن إذا بلغ المال نصابا وإنما النصاب عادة يكفى الاسرة الصغيرة حولا كاملا ويكاد ذلك يصدق على الماشية والزرع والنقدين.
والزكاة تصلح النفس فتكسبها سخاوة وجودا وتمرن المسلم على العطاء والبذل وتكسب المجتمع إخاء وترابطا وتجعل الفقير يحرص على نفع الغنى فلا يحسده وتغرس في القلب مراقبة الله وتبعد وساوس الشيطان التى تصرف الضعاف عن الخير فيستهويهم أهل الكفر أو الفسق فجعل الله سبحانه الزكاة في مصارفها حماية للفقير من فقره وللغريب من غربته وقربت العهد بالجاهلية وحماية لثغور المسلمين من الأعداء ورفعا للعبودية عن المستعبدين. فكل ذلك تزو به النفوس وتتهذب الأرواح من أجل ذلك شرع الله الزكاة للمسلمين فكانت بركة عليهم وتربية لنفوسهم وتروضا لقلوبهم فلا تتعلق بالاموال تعلق العبادة بل المال في أيديهم لا تظغيهم كثرته ولا تنسيهم قلته ولا يستهويهم جمعه ، عالمين أن التعاسة ترافق عبادة المال والتعلق به لحديث البخارى عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميسة أن أعكى رضى وأن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش.
فالزكاة ليست غرامة بل عبادة لله تعالى كسائر العبادات لابد فيها من النية وقصد الثواب ولابد فيها من الاحسان حتى ينال الثواب فلا يعطيها تعاليا على الفقير ولا تكبرا ولكن يعطيها وهو يدعو له قبل أن يدعو له الفقير. فلا يتهرب منها العبد كما يتهرب الممولون من الضرائب لأن الزكاة تعطى لله المنعم الرقيب.
والزكاة التى تقضى على الشح وتعلم السخاء ترفع النفس من البهيمية إلى الإنسانية وتعود الإنسان على العفو عند المقدرة والصبر على الشدائد وتهون الدنيا وآلامها.
والزكاة التى فرضها الله سبحانه على الناس تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم فعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعض معاذا إلى اليمن قال له: أنك تأتى قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة إلا اله إلا الله وأنى رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.
والزكاة يمن وبركة وصلة ورحمة وعبادة خالصة وتهذيب وتربية ونجاة من النار ومرضاة للملك الجبار.
وانظر إلى جميل الدعوة للترابط والمواساة بين أفراد المجتمع المسلم بالمال والنفس. فقد جاء في الحديث القدسى أن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعده أما انك لوعدته لوجدتنى عنده. يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى ، فيقول يارب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ فيقول الله أما علمت أن عبدى فلانا استطعمك فلم تطعمه ؟ أما انك لو أطعمته لوجدت ذلك عندى. يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقنى. فيقول كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ فيقول استسقياك عبدى فلان فلم تسقه أما انك لو سفيته لوجدت ذلك عندى.