الكعبة والمشاعر المقدسة
قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96].
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد وعدنا -في العدد السابق- أن نكمل الحديث عن الكعبة والمشاعر المقدسة؛ بعد أن تحدثنا عن شيء من أخبار مكة، وفضائلها[1]، فنقول مستعينين بالله:
قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96-97]، وقال سبحانه: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127].
قال ابن كثير، رحمه الله: "يذكر تعالى عن عبده ورسوله وصفيه وخليله إمام الحنفاء ووالد الأنبياء، عليه أفضل صلاة وتسليم، أنه بنى البيت العتيق الذي هو أول مسجد وُضع لعموم الناس يعبدون الله فيه، وبوَّأه الله مكانه؛ أي أرشده إليه، ودله عليه؛ وهو المكان المهيأ له، المعين لذلك منذ خلق الله السماوات والأرض، كما ثبت في [الصحيحين]: "أن هذا البلد -أي مكة- حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة"؛ ولم يجئ في خبر صحيح عن معصوم أن البيت كان مبنيًّا قبل الخليل، عليه السلام، ومن تمسك في هذا بقوله: ﴿ مَكَانَ الْبَيْتِ ﴾ [الحج: 26]، فليس بناهض ولا ظاهر؛ لأن المراد مكانه المقدّر في علم الله، المقرر في قدرته، المعظم عند الأنبياء موضعه من لدن آدم إلى زمان إبراهيم. [البداية والنهاية (1/ 53)].
ثم قرر ابن كثير، رحمه الله، ما قرره أهل العلم قبله وبعده أن الإسرائيليات لا تصدق ولا تكذب ولا يحتج بها في ذاتها.
وذكر أن الخليل صلى الله عليه وسلم بنى أشرف المساجد في أشرف البقاع بواد غير ذي زرع، ودعا لأهله بالبركة، وأن يرزقوا من الثمرات، مع قلة المياه، وعدم الأشجار والزروع والثمار، وأن يجعله حرمًا آمنًا، وسأل الله أن يبعث فيه رسولاً منهم؛ أي من جنسهم وبلغتهم، فاستجاب الله له، ولبى طلبه في كل ما سأله، ولما كان إبراهيم، عليه السلام، هو باني الكعبة لأهل الأرض استحق أن يكون منصبه ومحله، وموضعه في منازل السماوات، ورفيع الدرجات عند البيت المعمور الذي هو كعبة أهل السماء السابعة كما ثبت في ذلك في حديث الإسراء والمعراج، وعندما بنى إبراهيم البيت وضع الحجر الأسود في مكانه الذي هو فيه اليوم؛ وقد ثبت أن الحجر الأسود نزل من الجنة، وكان عند نزوله أشد بياضًا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك. قال المحب الطبري: في بقائه أسود عبرةً لمن له بصيرة، فإن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد.
وأما مقام إبراهيم الذي ذكره الله في كتابه؛ فهو الحجر الذي كان يقف عليه قائمًا لما ارتفع البناء عند قامته، فوضع له إسماعيل، عليه السلام، هذا الحجر المشهور ليرتفع عليه لما تعالى البناء، وقد كان ملصقًا بجدار الكعبة، ثم نقل قليلاً عن موضعه الأصلي إلى ما هو عليه الآن، وقد استمرت الكعبة على ما بناها عليه الخليل مدة طويلة، ثم بنتها قريش في الجاهلية -وكانوا يعظمون الكعبة- ولكنهم لم يبنوها على قواعد إبراهيم، فأخرجوا حجر إسماعيل من البيت، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة الذي في (الصحيحين)؛ وهذا هو السر في عدم صحة طواف من يطوف من داخل حجر إسماعيل؛ لأن الحِجْر جزء من البيت، وكذلك لا يصلى في حِجْر إسماعيل صلاة الفريضة، والنافلة على خلاف؛ لأنه لا يكون مستقبلاً لكل البيت.
كسوة الكعبة: روى البخاري في (صحيحه) من كتاب الحج، فقال: باب كسوة الكعبة، ثم ذكر حديثًا في ذلك، ونقل ابن حجر قول ابن بطال: إن الملوك في كل زمان كانوا يتفاخرون بكسوة الكعبة برفيع الثياب المنسوجة من الذهب وغيره، كما يتفاخرون بتسبيل الأموال لها -أي؛ جعلها سبيلاً ووقفًا على الكعبة- ثم ذكر الحافظ كلامًا طويلاً في (الفتح) (3/ 536) عن بدء كسوة البيت الحرام، فتحصل له في أول من كساها مطلقًا ثلاثة أقوال: إسماعيل، وعدنان، وتبعَّ؛ فأما إسماعيل، عليه السلام، فهو أول من كساها مطلقًا، وأما تبع فأول من كساها الأنطاع والوصائل، وأما عدنان فأول من كساها بعد إسماعيل.
وأما أول من كساها الديباج، فقد ذكر في ذلك ستة أقوال: خالد، أو نتيلة، أو معاوية، أو يزيد، أو ابن الزبير، أو الحجاج، ثم جمع بينها، وأزال تعارضها، فقال: كسوة خالد ونتيلة لم تشمل كل الكعبة؛ وإنما كان فيما كساها شيء من الديباج، وأما معاوية فلعله كساها في آخر خلافته، فصادف ذلك خلافة ابنه يزيد، وأما ابن الزبير فكأنه كساها ذلك بعد تجديد عمارتها، فأوليته بذلك الاعتبار، لكن لم يداوم على كسوتها الديباج، فلما كساها الحجاج بأمر عبد الملك استمر ذلك؛ فكأنه أول من داوم على كسوتها الديباج في كل سنة. وذكر الفاكهي أن أول من كساها الديباج الأبيض المأمون بن الرشيد، وكساها محمد بن سبكتكين ديباجًا أصفر، وكساها الناصر العباس ديباجًا أخضر، ثم كساها ديباجًا أسود، فاستمر إلى الآن. اهـ.
زمزم: روى البخاري في [صحيحه] بسنده إلى أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: كان أبو ذر، رضي الله عنه، يحدَّث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فُرِج سقفي وأنا بمكة، فنزل جبريل، عليه السلام فَفَرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغها في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي، فعرج إلى السماء الدنيا، قال جبريل لخازن السماء الدنيا: افتح، قال: من هذا؟ قال: جبريل".
وقد ثبت من فضائلها عند مسلم من حديث أبي ذر "أنها طعام طعم"، وعند الطيالسي "وشفاء سقم". وأما حديث "ماء زمزم لما شرب له" فقد قال الحافظ عنه: "اختلف في إرساله ووصله وإرساله أصح".
وقد سميت زمزم بذلك لكثرتها، يُقال: ماء زمزم أي كثير، وقيل: لاجتماعها، وقال البعض: الزمزمة من الناس خمسون ونحوهم. وذكر الفاكهي في (أخبار مكة) قول مجاهد: سميت زمزم؛ لأنها مشتقة من الهزمة، والهزمة: الغمز بالعقب في الأرض، أي كما فعل جبريل، عليه السلام، عند ظهور زمزم، وقيل: سميت زمزم لحركتها، أو لأنها زُمَّت لئلا تأخذ -أي تنتشر- يمينًا وشمالاً.
وسُمي يوم التروية بذلك؛ لأن الناس كانوا يتروَّون من الماء، وقال بعضهم: إن الناس كانوا يتروون فيه الماء إلى عرفات، ولم يكن بها ماء؛ أي يحملون الماء معهم في هذا اليوم إلى عرفات، وهم ذاهبون إليها.
وسميت عرفات بذلك؛ لما رواه الفاكهي بإسناد صحيح إلى أبي مجلز، رضي الله عنه، قال: انطلق جبريل، عليه الصلاة والسلام، بإبراهيم، عليه السلام، إلى عرفات، فقال: عرفت؟ قال: نعم، قال: فمن ثم سُميت عرفات"، وقال عطاء، رضي الله عنه: "إنما سُميت عرفات؛ لأن جبريل، عليه السلام، كان يري إبراهيم، عليه السلام، المناسك ثم يقول: عرفت؟ فيقول: عرفت، ثم يقول: عرفت؟ فيقول عرفتُ، فسميت عرفات".
وسُميت مزدلفة بذلك؛ لمزدلف الناس عنها، وأنهم لا يقيمون بها يومًا كاملاً.
وسُميت أيام التشريق بذلك؛ لأنهم كانوا يشرقون للشمس بمنى في غير بيوت ولا أبنية في الحج، أو لأنهم كانوا يشرّقون القديد في هذه الأيام.
والله أعلم، وصلى الله وبارك وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
[1] مما يلفت النظر أن مكة المشرفة، وهي بلد التجارة التي خرجت منها وإليها رحلة الشتاء والصيف كانت مليئة بالأسواق المتخصصة، ففي القرن الثالث الهجري (آخر القرون الفاضلة) كان بها سوق التمارين (بائعي التمر)، وسوق أصحاب الصابون، وسوق البزازين (بائعي البز)، وسوق الصيارفة وسوق الصيادلة، وسوق الحذائين، وسوق النجارين، وسوق الخرازين، وسوق اللبانين، وسوق الحمارين، وسوق السمك، وسوق الغنم، وسوق القوارير، وسوق القواسين، وسوق الظهر، وسوق الحدادين، وسوق الرواسين، وسوق الحطب، وسوق البرامين، وسوق الليل، وسوق البقر، وسوق الغزالين، وسوق أصحاب الأدم، وسوق الدباغين، وسوق الخياطين، وسوق البقالين، وسوق الدجاج والحمام، وسوق ساعة، وسوق الفاكهة.